لابد أنك جربت ھذه التجربة أو تذكرھا منذ أیام المدرسة .. ھات طبقًا ملیئًا بالماء وثبت شمعة فیھ.. ثم أشعل الشمعة
واقلب كوبًا منكسًا فوقھا .. سوف تبقى مشتعلة بضع ثوان ثم تخمد ویمتلئ الكوب بالدخان الأبیض ویرتفع الماء فیھ
.. لماذا حدث ھذا ؟... كل الناس تعتقد وكل الكتب المدرسیة تفسر ما حدث بأن النار استھلكت الأكسجین في الكوب
مما أدى إلى دخول الماء إلیھ لیملأ نفس الحیز وھو حوالي الخمس.. ھذا ما وجدنا علیھ آباءنا وھذا ما علمتھ لابني
.. إلى أن وقع في یدي كتاب (الفیزیاء المسلیة) لكاتب روسي مشاغب ھو (یاكوف بریلمان) مشكلتھ في الحیاة ھي
أن یخبرك بأنك – البعید – لا تفھم .. بریلمان یقول إن ھذه التجربة وصفھا الفیزیائي القدیم فیلون البیزنطي منذ ألفي
عام وقد فسرھا بشكل صحیح .. یمكن أن تتم التجربة لو اكتفینا بتدفئة الكوب من دون نار، أو لو استعملنا قطنة
مبتلة بالكحول تشتعل وقتًا طویلاًَ.. فالماء عندھا سوف یصل لنصف الكوب ولیس لخمسھ .. ثم أن الأكسجین
المحترق لن یختفي من الوجود بل سیخلف ثاني أكسید كربون .. إذن لیس الموضوع ھو احتراق الأكسجین لكنھ
ارتفاع حرارة الھواء بالكوب مما یؤدي لنقص ضغطھ وبالتالي یندفع الماء للداخل تحت تأثیر الضغط الجوي ..
ھل ترید المزید ؟.. مثلاً لا یوجد شيء یدعى قوى الطرد المركزي التي تتخیل أنھا ھي ما یقذف بك من باب
السرفیس عندما یدور بھ السائق المسجل خطر بسرعة في المنحنى .. ما یحدث ھو قوة القصور الذاتي تتحرك على
مماس دائرة .. طبعًا ھذا لن یھمك وأنت تطیر في الھواء لتضرب الرصیف لكن یجب أن تعرف اسم القوة التي
جرحتك أو فتحت دماغك..
في طفولتي كنت أرید أن أكون ضابطًا ثم كبرت فتمنیت أن أكون طبیبًا وكبرت أكثر فتمنیت أن أكون مفتشًا في
الرقابة الإداریة (وھذه لیست دعابة) !... احتجت إلى أربعین عامًا كي أفھم أن مھنة المدرس ھي أھم مھنة في
الكون، وأن المدرس ھو من یصنع الضابط والطبیب ومفتش الرقابة الإداریة ..
أنا قد تعلمت على أیدي أفضل معلمین على الإطلاق عندما كاد المعلم أن یكون رسولاً فعلاً.. كانوا یخافون الله
ویراعون ضمیرھم ولولا أننا كنا مراھقین قلیلي الأدب لقبلنا أیدیھم صباحًا ومساء، لكنھم لم یفطنوا ھم أیضًا لمعنى
ت .. حد X اختبار المعلومة وتفنیدھا .. اذكر كیف أن مدرس العلوم لوح بالخیرزانة في الھواء وقال لنا: "ج = م
عنده اعتراض ؟"
ھكذا ثبتت المعلومة في أذھاننا للأبد !!.. الجھد یساوي حاصل شدة التیار في المقاومة بلا تجارب ولا وجع دماغ ..
ولم نتساءل قط لماذا ؟.. ولم نتخیل ماذا لو لم یساو جیم میمًا في تاء ؟ ..
ھناك مشكلة حقیقیة في فلسفة التعلیم في مصر ھي أعمق من مشاكل الدروس الخصوصیة والسنة الابتدائیة السادسة
.. التلقین ھو الأساس ولا یتم أبدًا البحث عن المعلومة بشكل جدلي .. حتى ھذا التلقین قد یكون خطأ كما رأینا في
المثال الأول لأن كل الكتب المدرسیة تصر على أن نقص الأكسجین ھو السبب، بینما فھمھا فیلون البیزنطي منذ
عشرین قرنًا ..
ھذا یؤدي إلى ان الطریقة العلمیة ذاتھا مھتزة لدى الكثیرین .. بل لدى من یفترض منھم أن یعلموا الطریقة العلمیة
ذاتھا .. لا اخفي سرًا إذا قلت أن أكثر أعضاء التدریس – باستثناء من ھم مختصون بھذا - لا یفھمون مبادئ
الإحصاء ولا كیفیة تصمیم بحث علمي ..
ھذا كلام مھم جدًا، وأراه السبب الوحید الذي یجعل أمریكا قادرة على ضربنا بالجزمة .. بعبارة أخرى ھم ھزمونا
بأفكار (كانط) و(دیكارت) . بطریقتھم العلمیة وفھمھم الصحیح للبحث العلمي.. قرأت بحثًا طریفًا یحمل اسم وزارة الصحة قامت فیھ بالتالي: أعطت العقار لمجموعة مرضى بالتھاب الكبد (سي) ثم لاحظت وظائف الكبد
ونسبة الفیروس في الدم لعدة أشھر ووجدت تحسنًا ملحوظًا !.. بس كده ..
ھنا تشد شعر رأسك .. ألم یسمع ھؤلاء عن محموعة ضابطة ؟.. مجموعة لا تتلقى علاجًا أو تتلقى علاجًا مختلفًا أو
تتلقى علاجًا وھمیًا اسمھ (البلاسیبو).. لابد من مجموعة ضابطة لتقارن النتائج أما البحث بھذه الصورة فلا یجرؤ
تلمیذ في الصف الثالث الإعدادي على تقدیمھ لمعلمھ ..
عندما اكتشف (رو) مضاد الدفتریا السمي جاء بمجموعتین من مرضى الدفتریا .. حقن أطفال المجموعة الأولى ولم
یعط شیئًا لأطفال المجموعة الثانیة .. بدأ أطفال المجوعة الأولى یشفون على حین تدھور أطفال المجموعة الثانیة ..
ھنا لم یتحمل قلبھ الرحیم أكثر .. لا یمكن أن یقتل الأطفال لمجرد البحث العلمي .. ھكذا قام بحقن نفس المضاد
لأطفال المجوعتین .. شفي البعض ومات البعض ..
لكنھ جاءت اللحظة المحتومة عندما جلس كالدیك المبتل أمام أستاذه العظیم (كوخ)... القیصر كوخ .. سید العلم
الألماني الصارم .. حكى لھ ما فعلھ فكان رد كوخ القاسي ھو: لقد سمحت لقلبك بأن یفسد التجربة وبھذا جنیت على
ملایین الأطفال الذین سیصابون بالدفتریا في المستقبل .. ھؤلاء سیموتون لأنك لم تكمل تجاربك كما یجب ولأن
العالم افترض أن علاجك فعال وآمن .. من أدراك أن الأطفال الذین شفوا شفوا بفضل علاجك ؟... لماذا لا یكونون
قد شفوا من تلقاء أنفسھم ؟.. أحیانًا تتصرف الدفتریا بھذا الشكل وتشفى بلا علاج .. ربما لو استكملت التجربة
للنھایة لوجدت أن عقارك غیر ذي جدوى !
كان ھذا ھو كوخ العظیم یتكلم .. یتكلم فلم نصغ لھ ولم تصغ لھ وزارة الصحة في بحثھا الذي بالتأكید تكلف الكثیر ..
لو تعلمنا طریقة التفكیر العلمیة لكففنا عن الذعر المضحك من كسوف الشمس كما حدث منذ أعوام، ولكففنا عن
الالتفاف حول بائع دائرة الاستقبال السحریة التي تعمل (بنظریة الأیونات) عند محطات المترو، دون أن یعرف ھو
ولا أنت معنى نظریة الأیونات ھذه .. ھذه ھي قشرة العلم لا العلم نفسھ، مثلما تستعمل برامج المسابقات التلفزیونیة
الكمبیوتر كمجرد وسیلة إیضاح ملونة رخیصة، لكن الصورة من بعید ترضي المسئولین: لقد صرنا نجري
المسابقات بالكمبیوتر !.. ولكففنا عن تصدیق طب الأعشاب غیر المجرب .. لو تعلمنا طریقة التفكیر العلمي لعرفنا
لماذا تساوي جیم میمًا في تاء ...!