القبلیة...
من قال إننا تخلصنا منھا ...؟
بیت الشعر العربي القدیم الذي یقول:
شعث مفارقنا .. تغلي مراجلنا
نأسو بأموالنا آثار أیدینا
ھذا البیت تلقیناه جمیعًا في المدرسة، وقال لنا مدرسونا – بنبرة إعجاب لا شك فیھا - إنھ نموذج طیب للفخر عند
العرب .. تأمل مدى الاعتزاز بالنفس ؟... إن مفارقھم مشعثة من القتال، ولكن مراجلھم لا تكف عن الغلیان كنایة
عن الكرم .. وھم یؤذون الناس باستمرار لكنھم یدفعون التعویضات .. ھل ترى ؟.. الآخرون ضعفاء فقراء ومنحطو
النفوس كذلك.. یقبلون بعض المال لینسوا ما أصابھم من أذى..
لیس ھذا فحسب، فالأخ العربي لا یرید أن ینسى القبلیة على سبیل الملل أو التعب أو السھو .. لھذا یقول:
ونشرب إن وردنا الماء صفوًا
ویشرب غیرنا كدرًا وطینا
لماذا تفخر یا أخي بأنك تشرب الماء من النبع صافیًا .. بینما یشرب الآخرون طینًا ؟.. لماذا لا ننظم العملیة فیشرب
الجمیع ماء صافیًا ؟
لكن ھذه الروح موجودة في العرب منذ قدیم، وكنا نحسبھا من سمات الجاھلیة، فإذا ھي تستمر وتُخلد ونقابلھا في كل
یوم ... على مستوى الدول وعلى مستوى الأسرة..
عرفت ذات مرة شابًا رقیق الحال خطب ابنة إحدى تلك الأسر، سأطلق علیھا (ھ) لتسھیل الأمور. وكان لھا أخ
موشك على الزواج بدوره أطلق علیھ (م).. صاحبنا رقیق الحال اشترى سجادة أنیقة للصالون من محلات القطاع
العام وتركھا في شقة خطیبتھ – كما ھي العادة في البیوت المصریة – إلى أن یستكمل تجھیز بیتھ.. تزوج أخوھا
(م) قبلھما فذھب الشاب رقیق الحال لتھنئتھ .. ھنا فوجئ بالسجادة مفروشة في صالون أخیھا !.. ابتلع دھشتھ إلى أن
تكلم مع خطیبتھ على انفراد، وقال لھا إن العادة جرت على عدم استعمال أشیائھ لأن الأمانة تقضي بھذا أولاً، ولأن
ھذا فأل سیئ ثانیًا، ولأن أحدًا لم یستأذنھ ثالثاً، ولأن المعارف المشتركین لن یصدقوا أبدًا أن ھذه سجادتھ ھو یوم
یرونھا في صالون بیتھ، وسوف یفترضون أن أخاھا ھو الذي أعان الشاب الرقیق الحال بإھدائھ سجادتھ..
ھنا تحولت خطیبتھ الرقیقة إلى شيء یشبھ مصاصي الدماء، وقالت لھ إنھ: لا یجب أن یقول ھذا (عنا) وذلك (لأننا)
نعرف ما نفعل ولأن (أخي) لیس بحاجة إلى سجادتك الحقیرة ھذه...
ھكذا ابتلع لسانھ لأنھ كان یحبھا فعلاً ولم یكن یرید تدمیر الزیجة لأسباب تافھة كھذه .. وبالفعل صارت زوجتھ ..
بعد ھذا بعامین تزوج أخو زوجة (م) وذھبا لزیارة العریس في بیتھ .. فوجئت الزوجة الشابة (ھ) بأن النجفة المعلقة
في الصالون ھي نجفة أخیھا (م) الذي سافر لبلد عربي منذ عام .. لقد جرؤت الحدأة على فك النجفة التي اشتراھا
زوجھا بمالھ كي تعلقھا في صالون أخیھا !.. وقد راحت الزوجة الشابة (ھ) ترغي وتزبد وتتحدث عن انعدام المثل
والنساء اللائي لا خلاق لھن .. فذكرھا زوجھا رقیق الحال في رفق بموقف مماثل حدث منذ عام .. لكنھا قالت) إننا)
لا نتصرف مثل ھؤلاء ..(إننا) نعرف جیدًا ما نفعلھ .. وما فعلھ أخي كان استعارة بسیطة لكن ھذه سرقة .. ثم إننا اعتدنا أن نشرب الماء صفوًا ویشرب غیرنا كدرًا وطینًا..
ما دمنا نحن من یرتكب الأخطاء ونؤذي فكل شيء على ما یرام والحیاة حلوة. الجرم كل الجرم ھو أن یفعل بك
الآخرون الشيء ذاتھ لأن ھذا معناه أن الخیر زال من العالم ..
یوقف الرجل سیارتھ في عرض الطریق فإذا لامھ سائق الأجرة الواقف خلفھ، تنطع وتنمر وقال في لھجة منذرة :
إنت مش عارف بتكلم مین ؟... ویرمقھ بتلك النظرة البولیسیة التي تعلم الكل كیف یصطنعھا اصطناعًا .. كأنھ من
عتاة رجال الأمن ذوي النفوذ أو من مراكز القوى في الستینات ..
جرب الآن أن تجعل سائق الأجرة یسد الطریق على نفس الرجل، ولسوف تسمع مواعظ كاملة عن قلة التھذیب
وانعدام الأخلاق .. وتنتھي الموعظة بالعبارة الشھیرة: إنت مش عارف بتكلم مین ؟.. ثم یرفع الموبایل في عصبیة
وقرف إلى أذنھ كأنھ یطلب (مراد بیھ) فلا یقول شیئًا .. فقط یغمغم ثم یغلقھ بعصبیة أكثر ولسان حالھ یقول (أنت
إنسان میت ..(
ھذا نموذج آخر للشعور القبلي الواضح .. وھذا الرجل لا یفعل إلا أن یمارس عملیًا أسلوب: ونشرب إن وردنا الماء
صفوًا ویشرب غیرنا كدرًا وطینا..
كل أسرة ترید أن یكون بین أبنائھا الضابط لیكون عندھا (إبراھیم بیھ) تخالف بھ القوانین وتمشي على أعناق
الآخرین .. كل أسرة ترید أن یكون عندھا وكیل النیابة والمستشار فإن لم تجد واحدًا ناسبتھ أو تمحكت في قریب
بعید .. ھكذا تستطیع أن تخالف القانون كما تشاء .. إن إبراھیم بیھ لقادر على أن یجعلھا تشرب الماء صفوًا ویشرب
غیرھا كدرًا وطینًا..
بفضل (إبراھیم بیھ) أو) سامي بیھ) یمكن للأسرة أن تظفر بلائحة أرقام ذات أربع أو ثلاث خانات .. ھكذا لا یجرؤ
شرطي واحد على الاعتراض ویمكنھا إیقاف سیارتھا في الممنوع وتھدد من ترید..
لكن حدث بلا حرج عما یحدث لو أوقف واحد من قبیلة أخرى سیارتھ في الممنوع.. عندھا تكون الطامة الكبرى ..
أمال إحنا متخلفین لیھ ؟
شعث مفارقنا .. تغلي مراجلنا...
دائمًا (نا) الدالة على الفاعلین .. دائمًا (نحن) و(إحنا (و(عندنا) و(بتاعنا).. والزوجة التي فقد زوجھا الوزیر منصبھ
في التعدیل الوزاري، فأصیبت بانھیار عصبي لأن كشك الحراسة أمام البنایة قد تم رفعھ .. كانت قد اعتادت أن
یكون ھذا (كشكنا) و(حراستنا) و(وزارتنا).. لھذا لم تتحمل فقد ھذا الھیلمان لتصیر كالرعاع الآخرین الذین لا یوجد
كشك حراسة على بابھم..
ونشرب إن وردنا الماء صفوًا
ویشرب غیرنا كدرًا وطینا
والمشكلة في مصر أن الأمر تجاوز مجرد لذة قھر الجیران .. إن النجاح الاجتماعي صار یقترن اقترانًا قویًا بالقدرة
على خرق القوانین .. مش إحنا .. القانون للفقراء والبسطاء (الذین یشربون كدرًا وطینًا ...(أما نحن ففوق القانون
..لھذا كما ذكرت وجد مثال (مش عارف إنت بتكلم مین)... واصطنع الجمیع ذلك الطابع المتكبر الغامض كأنھم من
رجال أمن الدولة شدیدي الخطر، برغم أن ھؤلاء لن یلفتوا الأنظار لأنفسھم في إشارة مرور أو طابور مصرف
لمجرد التفاخر..
نحن .. نحن ومن بعدنا الطوفان..
كیف یجرؤ ھذا الشرطي على إیقاف سیارتي ؟... أتراه یحسبني من الآخرین ؟.. ألا یعرف أنني من (بني مخزوم)
؟... كیف یعاقب ھذا المدرس الفقیر ابني في المدرسة ؟.. ألا یعرف ابن من ھو ؟... لقد تعبت كثیرًا حتى أبلغ مكانة
تسمح لي بمخالفة القانون ولن أسمح لواحد من قبیلة أخرى بأن یحاسبني..
وھكذا تمضي الحیاة في مصر .. لا تدري ھل ھو وباء مستجد أم ھو مرض منذ القدم لم نشف بھ وتظاھرنا بذلك
بعض الوقت ؟.. لكننا لن نتقدم أبدًا ما لم نتعلم كیف نمشط مفارقنا ونطفئ مراجلنا إلا عند اللزوم، وننظم ورود
الینبوع لیشرب الكل الماء صافیًا...
1 التعليقات:
حسنا
إرسال تعليق