مذكرات الدكتور مصطفى محمود قبل وفاته
الحلقةالأولى .. بذرة الشك
تمهيد واجب
من كان يصدق ذلك؟
أخيراً بعد عشرين عاماً من الاختفاء وقبل وفاته
.. يتكلم.. سأل عنه الناس.. وتكلموا.. ويئسوا.. ثم سألوا.. واندهشوا.. وصمتوا.. تعددت الشائعات فمنها أنه تم إبعاده لأسباب سياسية ومنها أن مرضاً لعيناً أصابه وأجلسه فى البيت، ومن روج أنه ترك عائلته ووطنه وسار هائماً على وجهه فى البلاد يبحث عن اليقين.
أخيراً وبعد عشرين عاماً من العزلة وقبل وفاته.. يتحدث.. ويطل على الناس.. ويروى.
أكثر من أثار الجدل فى مصر خلال القرن العشرين.. وأكثر الشخصيات التى تعرضت للهجوم والشائعات طوال حياته.. أخيراً يتكلم صاحب أكثر الكتب الدينية إثارة للجدل فى القرن العشرين (الله والإنسان) كتابه الأول الذى حوكم من أجله فى شهر رمضان وقد كان بداية لموجة التكفير، التى عانى منها المفكرون فى مصر خلال الخمسين عاماً الأخيرة.
مصطفى محمود.. العالم، المفكر، الفيلسوف، الطبيب، الفقيه، الصحفى، السياسى، الكاتب، الأديب، يتكلم ويروى ويتحدث ويعلم أجيالاً افتقدوا القدوة وبحثوا عنها كثيراً، وحتى الآن لم يعثروا عليها.
ننشر هنا حقائق لأول مرة من خلال مذكراته التى روى منها جزءاً كبيراً وتم استخراج باقى هذه المذكرات من خلال أعماله وكتاباته، وهنا يجيب عن تساؤلات كثيرة ظلت بدون إجابات حول طفولته وجمعية الكفار التى كونها فى الثانية عشرة من عمره وكيف كانت حشرات الصراصير بداية رحلة الشك الطويلة،
وهل بالفعل وصل مصطفى محمود إلى اليقين التام وما المنهج الذى استخدمه وكيف كان لوالده تأثير قوى عليه وكيف احتلت ابنته أمل مكانة الأم عنده.. وهل كان الموساد الإسرائيلى سبباً فى فشل زيجاته، وهل كان له يد فى الشائعات التى دارت حوله وهل حاول اغتياله؟
نكشف علاقته بكل من (هيكل.. صلاح حافظ.. عبدالوهاب.. صلاح جاهين.. هتلر.. السادات.. إحسان عبدالقدوس.. لويس جريس.. عبدالناصر.. لوتس عبدالكريم.. بنت الشاطئ.. روزاليوسف.. ماركس والشيوعية).
عن أزمة الشفاعة التى لم تنته حتى الآن يتحدث.. قصة البرنامج الذى كانت تخلو شوارع مصر من المارة أثناء إذاعته.. ولماذا أراد مصطفى محمود أن يصور للناس عذاب القبر بالصوت والصورة؟
أين مصطفى محمود؟
لم يكن اقترابنا منه سهلا أبدا.. هو ناسك فى صومعته الآن.. غير مسموح لأحد بالتطفل أو الاختراق.. لذلك كان السماح لنا بالاقتراب أمراً غير عادى.. ذهبنا فوجدناه ولم نجده.. فقد كان جسده الذى نحل يملأ المكان.. وصوته الذى وهن يخترق سمعنا.. لا يشغله شىء عن قضاياه التى تفرغ لها.. ابتعد عن المشكلات التى تشغل المصريين هذه الأيام.. الفلاسفة دائما لا ينظرون إلى التفاصيل وإنما يرجعون كل المشاكل إلى العلل الكبرى، وعلل مصر والأمة العربية والإسلامية تتلخص الآن من وجهة نظره فى (تدنى الأخلاق، والبعد عن الدين، والفرقة).
اقتربنا منه فى اليوم الذى شهد مولده والعائلة تحتفل بعيد ميلاده الـ٨٨ فى السابع والعشرين من شهر ديسمبر عام ٢٠٠٨.. شاهدناه.. راقبناه.. حاورناه.. جادلناه واستمتعنا بالخصوصية التى خصنا بها هو وعائلته الكريمة.. طفنا فى صومعته الخاصة التى لم تتجاوز شقة مساحتها ٨٥ متراً عبارة عن حجرتين وصالة صغيرة، واجهنا صعوبة شديدة فى التحرك داخل أرجاء صومعته بسبب تلال الكتب المترامية، التى كادت تخفى معالم الجدران.
لم يتغير برنامجه طوال فترة اقترابنا منه فهو بعد الاستيقاظ فى الثامنة صباحاً يتناول وجبة إفطار خفيفة فى السرير «جبنة ومربة وعيش توست وشاى بلبن أو نسكافيه»، ثم يحصل على حمام دافئ، وبعد ذلك يبدأ بقراءة الجرائد، ويحصل على جولة قصيرة ليتابع أخبار العالم أمام التليفزيون، لينكبّ بعدها على كتبه ودفاتره يدون أفكاره مستنداً إلى لوحه الخشبى الشهير «مصطفى محمود لم يجلس على مكاتب أبدا» لا يتوقف إلا لتناول الغداء فى الخامسة والذى لم يتغير أبدا عن السمك المشوى يتلوه تفاحة وموزة، ليستمر فى اجتهاده بين كتب الفلسفة والدين وعلوم الكون، ويحاول تفسير بعض الآيات الكونية التى وردت فى القرآن الكريم ويتناول وجبة العشاء فى العاشرة مساء وهى مثل الإفطار ليواصل اجتهاده إلى الثانية عشرة مساء.
وعن عزلته هذه تقول ابنته أمل إنها ليست بجديدة عليه فقد كنا أطفالاً صغاراً لا نستطيع دخول غرفته.. والذى تغير هذه الأيام أن فترة العزلة قد طالت، لدرجة أنه يظل لأيام لا يتحدث مع أحد، مما يدفعها للقلق عليه فتذهب لتطمئن عليه فتجده فى حالة تأمل وسكون تام أو غرق فى القراءة، وعندما أظهرت قلقها عليه ذات مرة طمأنها وقال: «لا تقلقى على فأنا لا أعيش وحدى فالله معى ولا يتركنى».
إلا أن الأزمة الأخيرة التى أرقدته داخل المستشفى الذى يحمل اسمه، حيث عانى من التهابات شديدة فى قرنية العين.. ربما حسم أمره وقتها وقرر أنه آن الأوان أن يخرج من عزلته ويفتح دفاتر أسراره.
هناك صور لا تنمحى من الذاكرة أبداً مثل:
■ متى فقدت الأمل فى الحلم ورضيت بالواقع؟
■ ما اللحظة الفاصلة بين أنا القديم الحالم الساعى لتغيير العالم وبين أنا الذى صرت
■ فى أى يوم وفى أى ساعة وفى أى لحظه فهمت أن الحلم حلم والواقع واقع أكان ذلك أيام الجامعة أم فى دهاليز المجلة «سنة أولى تدريب» وأنا أرى القيم تتساقط أمامى الواحدة تلو الأخرى على يد أساتذتى الكتاب الكبار الذى كنت أحلم يوماً بالحديث لهم
■ أم حين كفرنى من كفرنى، لمجرد أن اعترضت على شعار الإسلام هو الحل وأشاعوا تنصيرى
■ أم حين شعرت بالغربة لأول مرة عن أهلى وأنا فى بلدى واخترت العزلة؟
مصطفى محمود
الهروب من الطفولة
سر القلق:
أننا نعيش بلا دين .. بلا إيمان وأن ديننا هو من الظاهر فقط.. كلمات على الألسن فى المناسبات وصلوات تؤدى بحكم العادة.. فاعرف نفسك تعرف ربك، أصبح الآن بحكم الوصول لابد من المرونة والتكيف.. حتى لا نصطدم ونشتبك ولابد لنا من المداهنة والمجاملة والتملق واكتساب الناس بالكذب عليهم، لابد أن ننافق الذين نكرههم لأن لهم فائدة ونتجنب الذين نحبهم لأنهم يعطلوننا فى الطريق.. بالفعل إن نجاحنا يعتقلنا.. ينتهك حرماتنا وفى الوقت الذى نظن فيه أننا ننجح ونحقق أحلامنا إذا بنا فى الحقيقة نفقد هذه الأحلام.. ونفقد أنفسنا وكل هذا من أجل إشباع حوافز الطعام والجنس وحب السيطرة.
مصطفى محمود
مازالت ذكريات الطفولة تنساب.. حكايات الطفولة غير العادية لفيلسوف الشرق.. فيقول
: «طفولتى كانت غريبة وعجيبة.. كانت لا تستقر أبدا أو تعيش على الأرض التى أقف عليها، كانت سلسلة من الأحلام الجميلة والشيقة التى أغوص داخلها، طفولتى كانت سلسلة من الهروب، هروب من واقعى المريض العليل أو هروب من مرحلة الطفولة نفسها، التى بطبيعتها ضيقة تحصر الطفل بحكم السن داخل حدود صغيرة جدا،
بينما كانت طبيعتى نفسها أكبر من المرحلة العمرية، فكانت تراودنى أحلام كبيرة وضخمة.. لا تقل فى ضخامتها عن جبال غابات الأمازون التى تمنيت مشاهدتها وتمنيت رحلات للغابات الاستوائية التى كنت أقرأ عنها فى الكتب والقصص وأظل ساعات طويلة أعيش فى حالة من الخيال الذى يدفعنى لأن أصدق أننى ذهبت إلى هناك فى ثوان معدودة ومارست اللعب مع القرود والغزلان وسارعت بالهروب من الأسود والنمور قبل أن تبتلعنى.. وكنت أترك لقلبى وعواطفى وعقلى العنان.. بلا قيود..
وما شجع هذه الخيالات والأحلام طبيعة المناخ الثقافى الذى عشته وعاشته أسر الطبقة المتوسطة فى هذه الفترة الزمنية فى الربع الأول من القرن الماضى، حيث كنت أداوم على مشاهدة روايات طرازان والسندباد والسندريلا فى أفلام السينما والتى بسببها كنت أقترض بعض مصروفات إخوتى لأنى أنفق مصروفى بالكامل فى أيام معدودة من أجل مشاهدتها أكثر من مرة وعشقت قصص السندباد وربنسون كروزو وأعجبت بقصة تحطيمه لمركبه ليعيش فى الغابات بين الأشجار الكثيفة والقرود والحيوانات، وتمنيت أن أفعل مثله لأنه ليس هناك أجمل وأروع من أن يعيش الإنسان على الفطرة والطبيعة التى خلقها الله بدون تدخلات وعبث البشر بها والتى تفسدها باسم التحضر والتكنولوجيا.
(ومن الممكن القول بأن المناخ الثقافى لهذه الفترة كان سبب نضوج عقلية مصطفى محمود)
ولكنه قال: كان أحد الأسباب فقط، فأبى شكّل الدعم الأكبر فى هذه المرحلة.. فمن المشاهد التى لا أستطيع حتى اليوم أن أنساها أبدا أنه بينما كان الآباء من جيراننا يدخلون بيوتهم وفى يد الواحد منهم كيس من الفاكهة أو الخضار، كان أبى يترك شؤون البيت هذه لأمى، فأبى لم يدخل البيت أبدا وهو يحمل «ربطة فجل»، كان يحمل دائما فى يديه المجلات والكتب..
ولا أنسى عندما دخل وهو يحمل ربطة كتب ومجلات ملفوفة بخيط دوبارة وأعطاها لى بدون أن يذكر لى ماذا أفعل بها.. كنت مازلت طفلا صغيرا وبالتالى كانت النتيجة المنطقية أن أقوم بتقطيع معظم هذه الكتب، إلا أننى وأنا ألعب وأمرح على بقايا مذبحة الكتب وقعت عيناى على إحدى صفحات مجلة وجدتها تحمل صوراً ورسومات شيقة لقصة مصورة.. أعجبتنى جدا.. وأردت أن أعرف باقى القصة.. ودفعنى عقلى الصغير إلى محاولة إعادة تجميع وترتيب القصة كلها.. وكانت بداية القراءة معى.. وكان هذا ما يريده أبى الذى كان يراقبنى من بعيد، بينما كان من فى مثل عمرى لا يستطيعون حتى الرضاعة.
كما أن هناك مشاهد فى طفولتى لا يمكن أن تنسى أو تنمحى من ذاكرتى فقد كنت أحب وأعشق المدرسة ويوم الجمعة كان يوم الإجازة الأسبوعى من المدرسة، أو كما كنا نسميه يوم المسامحة، وكنت أتمرد على هذه التعليمات وأذهب فى الصباح وأقفز من فوق السور إلى داخل المدرسة حتى لا يرانى الخفير وأتجول فى الفصول حتى يحين موعد أذان العصر ثم أمضى إلى أصدقائى وأقص عليهم أننى كنت فى المدرسة اليوم فيقولون غير مصدقين «اليوم هو المسامحة» فأقول «أنا معنديش مسامحة أبداً»
وكان أحب الأيام لقلبى عندما أرتدى الزى الجديد فى أول يوم دراسى والأيام التى كنت فيها أقود مراكبى التجارية إلى الهند أثناء تساقط الأمطار الغزيرة بمنتصف فصل الشتاء فى فناء المدرسة فقد كنت أصنع مراكب من الورق وأسيّرها فى المستنقعات الصغيرة والبرك التى خلفتها الأمطار وأتخيل أنها ذهبت إلى الهند وأنى أقودها وأثناء الرحلة تقابلت مع الهنود ونشبت بينى وبينهم صداقة حميمة وعشت مع البسطاء فى أكواخهم الموجودة فى أعالى الجبال وركبت الفيل وتجولت به وسط الغابات،
وبعد انتهاء الرحلة عادت وهى تحمل ملابس وطرحاً هندية جميلة وعاجاً وسواكاً وبخوراً ولكن كما كانت هذه القصص الغريبة والعجيبة وغيرها سبباً فى شعورى بالسعادة وأننى أختلف عن الآخرين..
كانت سبب متاعبى المستمرة لمدى غيرة أصدقائى منى لأننى لا أشاركهم ألعابهم وصراعهم وتصوروا أننى أتكبر عليهم رغم أنى كنت أكن لهم كل الحب والتقدير ولكنى طفل ضعيف لا أقوى على مسايرتهم وممارسة ألعابهم.
. وهنا وجدنا أن هناك سؤالاً مهماً وهو: لماذا يذكر مصطفى محمود أحلام طفولته بهذا الكم الهائل من التفاصيل والأماكن؟
ووجدنا الإجابة.. لأنه هنا يظهر الفرق عند الدكتور مصطفى محمود.. فهذه التفاصيل هى الخلاصة بمعنى أنه ما من طفل لا يحلم لكن لا يضع كل الأطفال أمامهم هدفاً لتحقيقه.. أما مصطفى محمود فهو لم يترك حلماً واحداً إلا وحققه فيما بعد.. مثلا أحلامه بزيارته للهند والتى حققها فيما بعد عندما سافر للهند وأقام هناك فترة طويلة تعلم فيها معظم أسرار الحضارة الهندية مثل الفنون والعبادات الهندية.. وأحلامه عن الغابات الاستوائية وحبه للحياة الأولية للإنسان (الفطرية) وهو ما حققه بالفعل فيما بعد فى زيارته الشهيرة إلى وسط أفريقيا والتى عاد منها سيرا على الأقدام.
ولكن زاد حنقهم وحقدهم على أن يواصل حكاياته عندما علموا أنى غارق فى قصة حب تجاه فتاة كانوا يتقاتلون عليها، وقد كنا نتجمع أنا وأصدقائى وأبناء الجيران فى بير السلم وكان معظمهم أصدقائى فى المدرسة وجيرانى فى شارع الحلو بطنطا ونتبارى لإبراز مواهب كل منا وكانت تجلس معنا تلك الفتاة ناصعة البياض ذات الشعر الأشقر ابنة الجيران «عدلية» وكانت جميلة جدا وعمرها تسع سنوات ووالدها يعمل معاون إدارة زراعية وكانت تبهرها مواهبى التى تفوقت وتميزت بها على أبناء الجيران وأى طفل آخر فى عمرى،
فقد كنت أغنى وأقرأ القرآن بصوت يشبه صوت الشيخ محمد رفعت - كان صوتى جميلا- وبعدها علمت أنها تبادلنى نفس الشعور بعد أن قبلتنى أول قبلة فى حياتى فى خدى تحت بير السلم، كنت أحكى لهم جميعا– ولها بالذات- حكايات من وحى الخيال فقد كانت تجلس ككليوباترا أو نفرتيتى بيننا وتطلب من كل طفل أن يحكى قصة من بنات أفكاره لترى من يستحق حبها وكانت حكايتى هى التى تفوز دائما وبعد أن أنهى حكايتى كانت تنظر إلىّ نظرة لم أنسها حتى الآن.. نظرة انبهار..
وأقسم بأننى لا أعرف كيف كانت تأتينى أفكار هذه القصص والحكايات ولكننى اكتشفت أن حبى لها هو ما كان يدفعنى لأتفوق على باقى الأطفال ودائما كنت أحمد الله لأنها تختار أن تسمع قصصاً وذلك لأنها إذا طلبت أن نتبارز ونتصارع لتعرف مدى قوتنا ومن يستحق حبها فكنت سأخسر المنافسة لا محالة، وعلى مدى الأيام والشهور كنت أولع بحبها وازداد إعجابها بى وعندما أردت أن أهديها شيئاً فكرت كثيرا وكنت أسأل إخوتى الذين علموا بالأمر، الذى صار حديث أطفال الشارع والمدرسة جميعا وأطلقوا عليه «قصة حب محمود وعديلة» ولكن استقر رأيى فى النهاية على نوع الهدية، الذى كان كتاباً يحتوى على أشعار فى الحب وبعدها بأيام قليلة وجدتها تهدينى أول هدية حصلت عليها فى حياتى من الجنس الآخر وكانت عبارة عن «فيل عاج صغير» وفرحت به جدا لأنى كنت - كما ذكرت - أحب الحيوانات.
ولأن عديلة كانت جميلة جدا فكان صعباً على جميع الأطفال الذين فعلوا المستحيل من أجل أن تنظر إليهم نظرة واحدة أن يصدقوا أنها فضلتنى عليهم، وكانوا كلما شاهدوا هذا الحب فى عيونى أو عيونها يُجنّون، وشرعوا فى مضايقتى بأن يرددوا عبارة «من همه بيحب أد أمه»
وذلك لأنها كانت تكبرنى بسنتين، وفى النهاية اتفقوا مع بعضهم ولم يجدوا طريقة لكى يخلصوا منى سوى أن يضربونى علقة ساخنة ونفذوا اتفاقهم عند عودتى من المدرسة ولم يكتفوا بذلك بل أصدروا «فرمان ومرسوم عيالى» بعدم دخولى الشارع ولكن تدخلت المفاوضات التى رضخوا لها بصعوبة شديدة بعد تعهدى بأن أبتعد عنها ولا أحاول رؤيتها وأنا ضعيف لا حول لى ولا قوة ولا أستطيع أن أحاربهم فى لعبة الضرب والحرب، وعاش معى هذا الحب فترة تجاوزت السبع سنوات رغم كل محاولات خصومى من الضرب والطرد والتهجير من الشارع، أى أنك تستطيع أن تقول إن حبى الأول هذا قد انضم إلى رفاق الطفولة الأخرى مع القصص والكتب والمجلات والأفلام.
ثم دخلت الثانوية أو كما كان يطلق عليها التوجيهية وبدأت القراءة تؤتى ثمارها.. فقد بدأت فى كتابة الشعر والقصص والروايات وظهرت اهتمامات أيضا بالعلوم لدرجة أنى أنشأت معمل اختبار داخل بدروم المنزل وأغرقت نفسى ليل نهار فى التجارب العلمية والتى كانت ستودى بحياتى أكثر من مرة بسبب حدوث بعض الحرائق وانفجارات صغيرة كل فترة.. وأغرقت نفسى بالعلوم التى كنت شغوفا بها مثل الكهرباء والبطاريات وجهاز التقطير والميكروفون والرسم على الورق وتنفيذ اختراعات لأجهزة، أى أننى كنت لا أرتاح فى فترة الإجازة وهو ما دفع والدى إلى أن يبيع هذا المعمل لخوفه على..
وأتذكر أننى كنت أتمنى دائما زيارة الغابات الاستوائية التى رأيت صورها لأول مرة داخل كتاب الجغرافيا الذى درسناه فى السنة الرابعة بالثانوية وقد تصفحت هذا الكتاب الكبير باهتمام شديد أكثر من عشر مرات، وعندما كان يسأل المدرس فى مادة الجغرافيا كان الجميع يقولون لن يستطيع أحد أن يجيب غير مصطفى محمود فهو يعلم موضع كل حرف داخل الكتاب حتى إننى حصلت على سمعة كبيرة فى المدرسة بأننى محب لمواد الطبيعة والجغرافيا والعلوم «وهذا كان سبباً فى أننى كنت الأول على المدرسة فى الثانوية
» وقرأت كثيرا عن أفريقيا وبصفة خاصة جنوب السودان ونيجيريا ولم اكتف بذلك بل كنت أنزع صور القرود والحيوانات الأفريقية لأزين بها حجرتى بدلا من كبار الفنانين والمطربين ونجوم الكرة وأبطال الرياضات المختلفة التى كان إخوتى يعلقونها داخل حجراتهم.
وبعد تفوقى فى المرحلة الثانوية التحقت بكلية الطب جامعة القاهرة التى كانت دراستها قاسية وتحتاج إلى مجهود مضن إضافة إلى اعتراض أهلى الشديد على هذا الأمر لكونهم كانوا يرغبون فى التحاقى بكلية الحقوق- التى كانت تخرج الوزراء والباشوات وقتها- وتحملت كل ذلك لأنه كان لى أهداف أخرى من دراسة الطب غير أن أكون طبيبا.. فكما ذكرت فى السابق أن رحلتى من الشك إلى الإيمان أو اليقين صاحبتنى فى سن صغيرة..
الشك ظهر لأنى أريد أن أفهم ما يدور حولى، لم يكن طبيعيا أن يتقبل عقلى كل الأشياء والمعتقدات المتوارثة بسهولة
. مثلا مثالى الشهير الذى ذكرته من قبل هم علمونى وأنا صغير أن كل (مخلوق) فى الدنيا له خالق.. كل مصنوع وموجود له من صنعه ومن أوجده.. فكنت أنا أتساءل فى عناد: إذا كان كل شىء له خالقه فمن خلق الله ومن أوجده؟.. فإذا أجبتمونى بأنكم مؤمنون بأنه موجود بذاته فلماذا لا تؤمنون بأن أى شىء آخر مثل الدنيا قد أتى بذاته..
طبعا أنا ذكرت من قبل أن هذه الطفرات الذهنية وهذه المناطق المعقدة كنت أصمم عليها ليس من قبيل الزهو بعقلى وأفكاره المتطورة ولكن من أجل أن أصل إلى يقين يزيد من إيمانى.. وكانت أفكارى أو أسلوب تفكيرى أحد أسباب اختيارى لهذه الكلية وهو ما تحقق بالفعل فيما بعد.. فبعد أن تعرفت على البكتريا التى تسبب الأمراض.. وكيفية علاجها.. وبعد وقوفى أمام الجثث الموجودة داخل المشرحة بالساعات.. وجدت نقطة البداية للإجابة عن كل ما يدور فى فلك الحياة وكل ما يدور حولى وعرفت جيدا من أين جئنا وإلى أين سنذهب وكان الوقوف أمام الموت فى المشرحة البداية الحقيقية للإيمان..
ومن المضحك أن لهذا السبب تعلقت بشدة بالمشرحة، فقد كنت أول طالب يدخلها وآخر من يغادرها، وفى يوم من الأيام كنت داخل المشرحة ولم أشعر بالوقت وأغلقوا على أبوابها دون أن أشعر أو يشعروا بوجودى ولكنى عندما انتهيت من العمل ووجدت الأبواب مغلقة وكان الجو بارداً جدا ناديت على الحراس بأعلى صوتى لمدة ربع ساعة حتى سمعونى وفتحوا لى الأبواب وصارت القصة تتردد داخل أرجاء الكلية فى اليوم التالى: وبسبب تلك القصة أصدر عميد الكلية تعليمات للأمن بأن يتفحصوا المشرحة جيدا قبل غلقها وفوجئت عند دخولى المدرج ذات مرة متأخرا وكان الدكتور صادق يشرح للطلبة بأن قال لى ادخل يا «مشرحجى» ومن بعدها وجدت الجميع يطلقون علىّ لقب المشرحجى .. وتعلقت بالتشريح وبهذا العلم العجيب..
وأتذكر أننى من عشقى للجثث والتشريح قمت بشراء جثة إنسان ميت بـ٥٠ قرشا وحملته بصعوبة وكان وزنه ثقيلا لأنه تغمره مادة الفورمالين التى تحفظ الجثة من التآكل أو إصدار رائحة كريهة.. وذهبت إلى المنزل وأنا سعيد جدا بالجثة التى أحملها وبمجرد دخولى حجرتى وضعتها فى حوض من الفورمالين لكى ينشفها وعندما شاهدتنى أمى «رقعت بالصوت» وأصابها الهلع والخوف وفقدت الوعى وأسرعت لها وعندما فاقت صرخت فى وجهى «إيه المصيبة اللى انت جايبها البيت دى؟.. بنى آدم ميت.. حرام عليك.. حرام عليك.. ترضى لما أموت حد يعمل فىّ كده..
ويبقى إيه العمل لو أهله راحوا المقابر وملقوش جثته» فضحكت مما قالت وقبلت يدها أطلب منها السماح لأنى تسببت فى فزعها وقلت لها سامحينى يا أمى لابد أن أذاكر على هذه الجثة دروس التشريح طوال إجازة الصيف لكى أنجح بتفوق، وبعد ساعات من المحاولات بإقناعها بأن هذا لصالحى وافقت على أن تبقى الجثة فى البيت ولكن على شرط أن أقوم بتنظيف حجرتى بنفسى طوال فترة وجودها بالبيت لأنها لن تقترب منها ووافقت وأغلقت على باب حجرتى ووضعت تحت سريرى جثة إنسان رجل ميت عاش معى أربعة أشهر طوال فترة إجازة الصيف وكنت كل يوم أقوم بوضعها على منضدة التشريح وأتدرب عليها وأدرس كتب التشريح وبعد الانتهاء أضعها تحت السرير فى الحوض الملىء بالفورمالين
وبعد انتهاء فترة إجازة الصيف أصبحت لا أحتاج للجثة المهلهلة من العمل بها طوال أربعة أشهر فقمت ببيعها لأحد أصدقائى بـ١٥ قرشاً ولكن رائحة الفورمالين التى ظللت أشمها طوال أربعة أشهر تسببت لى فى أزمة صحية حيث ظللت بعدها سنوات طويلة أعالج من النزلات الشعبية.. فالجثث والمشرحة لها فضل كبير فى تغيير طريقة تفكيرى..
وذلك لأن المفكر الحقيقى لا يجب أن يؤمن بالأشياء على طول الخط أو يكفر بها على طول الخط ولكنه بطبيعته يعيد النظر دائما فى الأشياء ويصحح الأخطاء مهما كانت ودائما يختلف المفكرون عن الذين ينظرون للأشياء بنظرة قلبية بلا أى شك لأن كل شىء من حولهم معرض للشك حتى يثبت له العكس
والإنسان الطبيعى والعادى حين يبدأ مشواره ورحلة الحياة فهو يبدأ بالمسلمات الأولية التى أمامه مباشرة وليس أى شىء آخر ولا يشغل تفكيره بـ«لماذا وكيف ومتى» ولكن الأشياء التى تقع تحت حسه هى التى يراها ويسمعها ويتعلم منها ولكنى تمردت على كل هذه الطريقة التقليدية والروتينية وبدأت فى طرح الأسئلة التى كنت دائما لا أجد إجابة عنها فرغم انهماكى فى مواد كلية الطب إلا أنه كان يشغلنى دائما البحث عن إجابات لأسئلتى.. فى البحث عن اليقين.
لم يمنعنى كل هذا عن ممارسة هوايات كنت أحبها فقد كنت منذ الصغر أحب الموسيقى وكان صوتى جميلاً ووجدت أن الكثير من الفنانين تخرجوا فى كلية الطب ومن الممكن أن نرجع السبب فى كل ذلك إلى أن الأطباء دائمو الوقوف أمام الموت وهم أقرب إلى الميت من الآخرين فيرون كل يوم بأعينهم الموت وهو يقبض أرواح البشر فى الوقت الذى يفر فيه الجميع منه ويهرولون حتى الأقارب وأقرب الأقربين والأصدقاء فى حين أن الطبيب الذى يعد أشجع إنسان تأتى به البشرية هو الوحيد الذى يواجه الموت ويحدق فى عينيه متحديا ومحاولا إنقاذ المريض هذا فضلا عن أنه الوحيد الذى يحضر ميلاد الإنسان ورحيله
وأول من يستقبل الإنسان فى الوجود وأيضاً آخر من يودعه من الوجود وبالفعل هى لحظات رهيبة تكون قادرة على أن تخرج من داخلنا مارداً كبيراً اسمه الكاتب والموسيقار والشاعر والراقص وقد ولد الفنان داخلى قبل هذه الظروف منذ أيام والدى الذى عشقته وكان مصدر الإلهام الأول فى حياتى فقد كان يحول بصوته الجميل الأرقام الحسابية إلى نغمات جميلة وهو يقرأ ويراجع أعمال وحسابات الموظفين ولكنى ترجمت مشاعرى الفنية إلى أشياء واقعية وملموسة داخل مقام السيد البدوى بطنطا الذى نشأت بجواره وفى رحابه مع حلقات الذكر والتواشيح الدينية والابتهالات الصوفية والطبل والدفوف التى تصاحب أهل الذكر وبعد ذلك بدأت أعشق العزف على الناى فى شباك غرفتى أثناء الظلام والسكون والهدوء الذى يسبق دخول الطائرات وسماع دوى صوت القنابل وانفجارات غارات الحرب العالمية الثانية وكنت أشعر بأن هذا أنسب وقت لأخرج من داخلى مارد عازف الناى دون أن يراودنى شعور الخوف والاختباء فى الخنادق التى كان يسارع الناس إليها فى ذلك الوقت وكنت فى هذه الأيام بنهائى كلية الطب.
وقد شاء القدر أن أتعرف على الأسطى عبدالعزيز الكمنجاتى والراقصة فتحية سوست وكانا أصحاب فرقة لإحياء الأفراح والطهور واتفقا معى أن أنضم لفرقتهما ووافقت دون مقابل مادى وهذا ما أثار دهشتهما ولكنى قلت لهما أنا أهوى العزف فقط ولا أنوى احترافه، كان لا يجب أن أخبرهما بالسبب الحقيقى كنت أفضل أن أحتفظ به لنفسى.. فقد كنت فى ذروة انفعالى التفكيرى.. عدم اليقين بأى شىء نهائى– أنا كنت أحتاج أن أخوض التجارب، كل شىء أجربه وأحكم عليه.
. وكان يأتى إلى البيت الأسطى عبدالعزيز وعندما تفتح له والدتى يقول لها قولى للدكتور الليلة فيه فرح فى درب البغالة أو فى الأنفوشى أو فى السيدة وكانت والدتى تنزعج جدا وكانت تعنفنى وتغضب لما أقوم به ولم تستوعب أنى أريد أن أترك نفسى للتجارب والبحث عن اليقين.
وفى أحد الأيام حدث شىء طريف للغاية لم أنسه حتى الآن وكنت دائما أحكيه لأولادى ونضحك كثيرا من طرافة الموقف، حيث كنت أعزف مع الفرقة فى أحد الأفراح الذى كنا نحييه على سطح أحد المنازل بالأنفوشى وصادف أنه كان هناك مجموعة من الشباب يشاهدون الفرح من على السطح المقابل لهذا المنزل وفوجئت بأحد زملائى فى الكلية لا أتذكر اسمه يقف بينهم ويقول لى وهو ميت من الضحك
«الله يا دكتور.. سمعنى يا دكتور.. اشجينى يا دكتور.. حلوة أوى الحتة دى يا دكتور.. يا سلام يا دكتور.. عشان خاطر الرقاصة عدها تانى» وتوقعت أن المسافة من الإسكندرية للقاهرة ستمنعه من الحضور وإبلاغ أحد ولكنى فى اليوم التالى عندما ذهبت إلى الكلية وجدت أن طلبة كلية الطب ليس لهم حديث سوى هذا الموضوع وطبعا سمعت «تلقيح وكلام زى السم» وتردد بأن مصطفى محمود كان يحيى فرحاً بالأمس فى الأنفوشى بالإسكندرية حتى وصلت القصة إلى الدكتور صادق وكنت أحترمه وأقدره
وهو من أطلق على لقب المشرحجى وطلبنى فى مكتبه ودار بيننا حديث ونقاش طويل يحاول أن يقنعنى بأن هواية عزف الناى شىء جميل ولكن لا يليق بى وأنا على وشك التخرج فى كلية الطب وسأصبح طبيباً أن أحترف العزف فى الأفراح ولكنى شرحت له وجهة نظرى فلم يقتنع وخرجت من عنده لأجد الأسطى عبدالعزيز الكمنجاتى يطلبنى لفرح جديد.. ووافقت.. وعزفت بعد ذلك فى أفراح كثيرة.
حكايتى مع الموت
■ يا صاحبى ما آخر الترحال؟ وأين ما مضى من سالف الليالى؟ أين الصباح وأين رنة الضحك؟! ذابت كأنها رسم على الماء.. أو نقش على الرمال.. كأنها لم تكن.. كأنها خيال.. على متاع كله زوال.. على مسلسل الأيام والليالى فى شاشة الوهم ومرآة المحال..
■ إلهى يا خالق الوجد من نكون.. من نحن.. من همو.. ومن أنا. وما الذى يجرى أمامنا.. وما الزمان والوجود والفنا.. وما الخلق والأكوان والدنا.. ومن هناك ومن هنا.. أصابنى البهت والجنون..
■ ما عدت أدرى وما عاد يعبر المقال.
مصطفى محمود
صمت الدكتور مصطفى محمود طويلاً عندما طرحنا عليه سؤالاً عن بداياته الحقيقية للكتابة والصحافة والأدب الذى خرج بشكل واضح فى مؤلفاته من روايات ومسرحيات وكتابات فكرية ونقدية فتنفس الصعداء ونظر فى الأفق البعيد..
وقال كان أول كتاب أتعلم منه قواعد الكتابة ومبادئ القصة هو القرآن الكريم وما حمل من قصص الأنبياء والرسل، والذى اهتممت بتناوله بشغف منذ أن تعلمت القراءة والتى تعلمتها قبل أن أتعلم أو أتمكن من الكتابة،
فقد كانت القراءة فى حياتى تسبق الكتابة، ومنه كانت البداية، وقد كان أول قارئ لكتاباتى وناقدى الوحيد هو صديق الطفولة فرج، وهو كان صديقى الوحيد بالرغم من أننى كان لى زملاء كثيرون، ولكن الأصدقاء أنتقيهم عملاً بحديث رسول الله الذى كان يردده والدى على مسامعنا أنا وإخوتى «المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل» وقد ظل فرج صديقى الوحيد ولم نفترق حتى بعد التحاقه فى المرحلة الثانوية بمدرسة الصنايع العسكرية والتحاقى أنا بمدرسة طنطا الثانوية ولم نفترق لأننا كونا مصنعاً صغيراً، فقد كنت شغوفاً بالكمياء والطبيعة وكان هو يجيد صناعة القوالب من الصلب والنحاس وخلافهما من المعادن فوجدت أننا فريق يكمل كل منا الآخر،
وأتذكر أن فى تلك الفترة الزمنية كانت المدرسة مع بداية العام الدراسى قد قامت بتسليمنا محتويات معمل صغير للكيمياء، وعلى كل طالب أن يقوم بدفع مبلغ تأمين، ويقوم أيضاً برد المعمل إلى المدرسة فى نهاية العام والحصول على مبلغ التأمين، ولكننى لم أرد المعمل مرة أخرى ووضعته فى بدروم البيت، وقمت بتجاربى المعملية الفاشلة فى أحيان كثيرة، كما ذكرت قبل ذلك، والتى كانت تتسبب فى تمزيق ملابسى الجديدة والقديمة وكنت أفاجأ بأمى تصرخ فى وجهى وتقول: «إنت مش خايف إنك تموت من اللى انت بتعمله ده»
وبالطبع كان فرج يصاحبنى فى تلك التجارب المعملية بمحتويات معمله من مجمرة والتخمير، وكانت هناك تجارب معملية ناجحة وقمنا من خلالها باستخراج العطور والروائح الجميلة ومبيدات قاتلة للصراصير، تلك الحشرة الضئيلة التى كنت ومازلت أكرهها بشدة، وكانت هناك أيضاً تجارب معملية فاشلة ترتب عليها الانفجارات التى جعلت أبى يقوم ببيع المعمل خوفاً على من الموت المحتوم الذى كان يطاردنى، ويطارد فرج مع كل انفجار وكما ذكرت كان فرج هو القارئ الوحيد لكتاباتى،
وفى أحيان كثيرة كان يشير إلى أن أغيّر من مضمون قصة وتحويلها من اللامنطق إلى المنطق حتى يتقبلها عقله، وأيضاً مرحلة النشر لما أكتب كانت مرحلة مبكرة فقد بدأت منذ أن كنت أقضى رحلة فى مصيف بورسعيد، وأرسلت إلى أخى مختار خطاباً أتكلم فيه عن الأيام التى أقضيها فى المصيف، وقد كان صديق أخى وقت ذاك محمود محمود الصياد الذى أصبح من نجوم تجويد القرآن الكريم بعد ذلك،
وقرأ الخطاب وقال لأخى إن أخاك مصطفى سيكون له شأن كبير فى مجال الكتابة والأدب، وكانت شهادة فرحت بها كثيراً عندما أبلغنى بها أخى،
والمرة الأخرى التى خرجت فيها كتاباتى إلى النور قبل أن أتخطى المرحلة الثانوية عندما أعلنوا فى مدرسة طنطا الثانوية عن مسابقة باللغة الإنجليزية وكان موضوعها يدور فى عن كتابة قصة عن أكثر الأحلام رعباً، وكانت مفاجأة أن أحصل على الجائزة الأولى التى كانت عبارة عن «خمسين قرشاً وشنطة مدرسية» وكان الحلم الذى ساعدنى فى الحصول على هذه الجائزة التى كانت كبيرة جداً فى هذه الأيام أننى كنت مريضاً ودرجة حرارتى منخفضة وضربات قلبى ضعيفة
ولذلك استدعت أسرتى الطبيب وكان ثقيل السمع عندما وضع السماعة على صدرى لم يسمع نبضات قلبى فظن أننى فارقت الحياة فتوجه إلى الأسرة بوجه شاحب يتصبب منه العرق قائلاً البقاء لله لقد مات ذلك الولد المسكين
وما كان إلا أن «رقعت» أمى بالصوت وحزن جميع أفراد العائلة على فراقى وكفنونى ووضعونى فى النعش ولكننى استعدت وعيى بعد وقت قصير وفتحت عينىّ لأجد نفسى فى ظلمة دامسة وملتماً بالكفن فشعرت بالرعب الشديد لما أنا فيه وثارت فى ذهنى أسئلة متعددة وكان بينها: أين أنا؟ وكيف سأخرج من هذا النعش؟ وعندما استعادتنى الأسرة كانت فرحة بلا وصف وربما كان هذا الحادث داعيا لأن يطلقوا على لقب الممسوس أو الملبوس وسهل لى لقب المشرحجى فيما بعد.
وكان هذا الحادث إضافة لحادث وفاة أخى التوأم سعد الذى توفى قبل أن أراه ضمن عدة أحداث كانت محفورة داخلى وساهمت فى تشكيل أفكارى، ومنذ أن تناولت ذلك فى قصة «أغرب حلم مرعب»
وأنا مؤمن بأن الموت هو الحقيقة والخلاص من هذا العالم وأن التابوت ليس الصندوق الخشبى الذى يحمل بداخله الموتى أو «الحجرى» فى العصر الفرعونى الذى تحفظ به المومياوات ولكنه يمثل الجسد الذى تسكن بداخله الروح وبمجرد خروجها يصبح هذا التابوت فارغاً وينتهى كل شىء.
التحقت بكلية الطب، وخلال الدراسة مارست مجموعة من المواهب الخاصة بجوار دراستى بها كالغناء وعزف الموسيقى فى الأفراح كما ذكرت قبل ذلك كالناى، والعود الذى ذهبت إلى مدرس ليدربنى للعزف عليه، ونشرت بعض كتاباتى الأدبية بالجرائد والمجلات، ولكن كل هذه الأمور كان صعباً على أسرتى تفهمها خاصة والدتى بعد أن أصبحت مسؤولة عن البيت ومن فيه بعد وفاة أبى حيث كنت أصغر العائلة سناً وأكثرهم محبة للنكتة والضحك فكنت محبوباً من جميع إخوتى سواء أشقائى أو والدتى،
وكانت أمى تصرخ فى وجهى وتقول «إنت هتموت نفسك بنفسك.. هو انت صحتك حمل كل ده» وكنت أشفق عليها خاصة وأنا أرى فى عينيها نظرات الخوف علىّ ولكنى كنت أتصرف بوازع من الرفض الداخلى الذى أتصرف به تجاه المسلمات، كذلك من أجل التميز والتفرد واكتشاف الجديد، فقد كانت رغبة جامحة لا يستطيع أحد أن يتصدى لها، وفى إحدى هذه الثورات المتكررة من والدتى اكتشفت أننى يجب أن أنسحب وأعيش فى حياة مستقلة لأننى لا أستطيع أن أمارس ما أريد بمنتهى الحرية فقمت بتحضير حقيبة ملابسى فى إصرار على الرحيل ولم يستطع أحد أن يقنعنى بالرجوع عن قراراتى التى كنت اتخذتها بعد تفكير طويل فتركونى متمنين أن أوفق فيما أريد..
تركونى لأواجه مصيرى، فذهبت أبحث عن بنسيون مناسب لإمكانياتى المادية المحدودة والمتواضعة حتى وجدت «بنسيون بسيط» فى حلوان فقمت بتأجير حجرة به وعملت محررا صحفياً بإحدى المجلات، وكان يجب أن أعيش حياتى بطريقتى، وليس بالطريقة التى يعيشها الصحفيون، وبدأت مرحلة عجيبة وغريبة وجديدة وقاسية جداً فى حياتى، فقد عملت بعد ذلك محرراً صحفياً بجريدة «النداء» براتب اثنى عشر جنيهاً شهرياً، وهى جريدة وفدية وكان يملكها ياسين سراج الدين، ووجدت أننى أعيش حياة الصعلكة التى يعيشها معظم الراغبين فى العمل بمهنة الصحافة فى بداية حياتهم وما لبثت إلا أن ظهرت ضريبة قراراتى وكل هذا العناد بإصابتى بمرض «التيفود»، ودخلت مستشفى الحميات بالعباسية
وما إن أفقت من غيبوبة المرض حتى وجدت أخى مختار على رأس السرير الذى أنا طريح فوقه يقول لى «أدى أخرة المشى البطال وعدم سماع النصيحة والعناد.. خف بسرعة عشان ترجع البيت.. أمك هتموت عليك» وقد كنت فى ذلك التوقيت قد قضيت خارج البيت حوالى عام كامل، ولكننى تعلمت من هذه التجربة الكثير والكثير،
وكان أهم ما خرجت به أن العمل بالصحافة دون الحصول على شهادة أو وجود مصدر رزق آخر تصاحبه أحلام المؤلف والأديب لا يكفى،
خاصة أن المادة التى يحصل عليها الصحفى بعد عناء ويقوم بكتابتها يمكن أن يراها تزال أمامه وتحجب من النشر بمجرد ظهور إعلان مفاجئ لأمواس حلاقة أو روج أو دواء أسبرين،
ووجدت أن مواصلة دراستى فى الطب الذى انقطعت عنه سنة كاملة وتعلم كيف أعالج المرض أكثر فائدة، ووجدت أيضاً أن فى عالم الصحافة الأحلام فى اتجاه، والأدب والمجد فى اتجاه، والهلس الصحفى فى اتجاه آخر، ومن الممكن أن يضيع عمرى فى أشياء لا تغنى ولا تسمن، وأننى لابد أن أنهى دراستى بالطب، وبعد ذلك أمارس الأدب والكتابة وأنه سيختلف الأمر بين أن أكتب وأنا لا شىء، وبين أن أكتب وأنا طبيب.
ومرت سنوات وأصبحت معروفاً بين الوسط الصحفى وأصبح لى أصدقاء من بينهم كامل الشناوى، الذى قال لى بعد ذلك فى أزمة كتابى «الله والإنسان» جملته الشهيرة «إنت بتلحد وانت على سجادة الصلاة» وكان كامل الشناوى صاحب فضل كبير علىَّ، حيث كان أول من قام بنشر كتاباتى ومقالاتى فى «آخر ساعة»، وكنت أقوم بالإمضاء عليها بالحروف الأولى من اسمى «م.م»
وأتذكر فى هذه الفترة أن صديقى العزيز أنيس منصور، كان يقوم ببعض المعاكسات معى، حيث كنت أنتهى من كتابة مقالى بتوقيع «م.م» فكان هو ينتظر حتى ينتهى الجميع من أعمالهم ويذهبوا، وينزل إلى المطبعة ويغير الإمضاء إلى «م.ع» وكنت عندما أقرأ المقال فى اليوم الثانى أفاجأ بالتغيير فأغضب مما حدث،
وعندما أذهب للتعرف على حقيقة ما حدث أعرف أنه أنيس، كنت أقول له «يا أخى يعنى إنت مستكتر علىَّ حتى الحرف»، وكان يضحك وأنا أضحك من أعماله الجهنمية، وهنا يغوص مصطفى محمود فى موجة من الضحك، ويقول
: أنيس منصور من الشخصيات التى اتفقت معى فى بعض أفكارى وهو من أصدقائى الذين أحببتهم منذ بداية عملى الصحفى فى جريدة «المسائية» وهى الجريدة التى أنشأها كامل الشناوى وفى بداية إنشائها استقلت من «آخر ساعة»، وذهبتُ معه أنا ومجموعة من الأصدقاء وهذه الجريدة لم تستمر أكثر من شهر،
وفى هذه الفترة كان كامل الشناوى دائم القول بشأنى وبشأن يوسف إدريس «إنتم مش طلبة كلية الطب.. إنتم طلبة كلية طب الجميلة»،
فى إشارة لكلية الفنون الجميلة، وأتذكر الشناوى رحمه الله، وكأننى أشاهده أمامى، وهو يضحك عندما ذهبت إليه فى يوم من الأيام لأدعوه لحضور حفل تخرجى فى كلية الطب، وكان يقول «بقيت دكتور؟ مش معقول.. أنا مش مصدق.. صحيح الروشتة اللى كتبتها مرة لأبوالعنين وكان أحد أصدقائنا وراح يصرفها وجد أنها أمواس حلاقة» ولبى دعوتى وحضر حفل التخرج فى كلية الطب
وكان يقول وهو يضحك أنا مُصّر إن الموضوع ممكن يطلع نكتة صحفية كما أننى أثناء عملى فى مجلة «صباح الخير» قمت بتأليف رواية «المستحيل» ونشرتها حلقات مسلسلة وزرت بعد ذلك كامل الشناوى فى مكتبه فقال لى متى سنقرأ الرواية كاملة فى كتاب فقال عندما نجد الناشر لأن الناشرين فى تلك الفترة كانوا لا يدفعون مبالغ مجزية لأن القراء كانوا يفضلون قراءة الصحف والمجلات أكثر من الكتب وقد سبق أن قمت بطباعة كتب على نفقتى الخاصة.
وواكب تخرجى أحداث ثورة يوليو ٥٢ وصدور مجلة التحرير وكان يرأس تحريرها ثروت عكاشة وبدأت أكتب بها وكان يكتب معنا حسن فؤاد ومجموعة كبيرة من الرسامين والأدباء الذين جمعتنى بهم صداقة متينة بعد ذلك ولا أستطيع أن أقول إن عملى بالصحف مع كامل الشناوى فى الصحيفة المسائية التى لم تستمر كما ذكرت أكثر من شهر أو فى آخر ساعة إلا أنه كان عملاً مؤقتاً فى بلاط صاحبة الجلالة، إنما بدأ عملى الفعلى بالصحافة فى «مجلة التحرير»
وفى التوقيت نفسه بدأت أمارس مهنة الطب فى بعض المستشفيات الصغيرة إلى أن استقر بى الحال فى مصحة ألماظة للحميات التى هيأ لى العمل بها إلى العزلة لموقعها الجغرافى آنذاك كان فى الصحراء التى تتسم بالهدوء والتأمل وكانت كل هذه الظروف داعية لأن يولد الأديب والمفكر والفيلسوف الكامن بداخلى فخرج فى أول أعمالى «الله والإنسان» الذى أثار جدلاً واسعاً سنتكلم عنه بالتفصيل فى حلقة قادمة وداخل هدوء الصحراء وبين عنابر المرضى خرج كتابى «عنبر ٧» وبين رائحة المرض والأدوية والدم خرج كتابى «رائحة الدم» وكذلك كتب «أكل عيش» و«شلة الأنس» و«العنكبوت و«لغز الموت»...
رأيت «ملك الموت»
أراد مصطفى محمود أن يدخلنا معه فى الحوار فسألنا عن الأفكار التى تشغل بال هذه الأجيال - يقصد جيلنا الحالى طبعا - فأجبناه عن كل تساؤلاته..
فكر بعض الوقت وكأنه لم يجد فيها ما يثير الانتباه.. أو أنه انتهى تفكيره إلى أنها ليست أفكاراً بالمرة فزم شفتيه ثم قال
: أريد أن أتكلم عن أفكارى وأنا فى المرحلة ما بين دراسة الطب وبين الثلاثين.. كنت فى مثل عمرك تقريبا وما الذى شغلنى فى هذه الفترة وكيف كنت أفكر ثم أردف: كان هناك خليط من خطوات فكرية تنضج بداخلى..
أفكار عن (الغيب والموت والقدر والعدالة) هل كان صراع الأفكار هذا بداخلى نتيجة لازدحام الساحة بكم كبير من أفكار الفلسفة الوجودية المادية فى هذه الفترة.. ربما.. لكن المؤكد أن هذه الأفكار تشغلنى منذ طفولتى كما سبق أن أشرت- أى عشرينيات وثلاثينيات القرن المنصرم- بينما هذه الأفكار بدأت تأخذ طريقها إلى الساحة فى مصر بعد الحرب العالمية ضمن حلقات انتشارها على المستوى العالمى نتيجة ليأس الفلاسفة من كل المناهج المطروحة وقتها وكان يتمثل فشلها فى عجزها عن وقف بحر الدم والعنف الذى شهده العالم أثناء الحرب العالمية الثانية.. إذا أنا سبقت انتشار هذه الفلسفة والأفكار بحوالى عقدين من الزمن.
ولكن الحقيقة أن من أكثر الأفكار التى شغلتنى عموما منذ طفولتى حتى الآن فكرة الموت.. دائما كنت أتصور أن عمرى قصير جدا وأنى سأموت.. بين الحين والآخر كنت أقف أمام المرآة وعمرى عشر سنوات وأقول بصوت مرتفع جدا الموت يطاردنى يقف خلفى وأمامى وبجوارى ألا أستطيع الهروب منه.. أنا بالفعل كنت أرى ملك الموت وكأنه يحاوطنى.. وكنت أشعر كل صباح يوم جديد أن ساعتى قد حانت وكنت أخبر أهلى بذلك..
وهذا أثار خوف وقلق والدى وأمى على وذهبا بى إلى الأطباء وعندما لم يجدا علاجاً يشفينى «طبيعتى المختلفة عن أقرانى كانت تدفعهما دائما لتخيل أنى أقترب من الجنون»
فذهبا بى إلى المشايخ والعرافين الذين كانوا يتواجدون بكثرة فى الريف ولكنهم أيضا لم يجدوا كلاما يقولونه غير أن يخترعوا أنى ممسوس أو «مخاوى جن» من تحت الأرض «لاحظوا أن شائعات الجنون وقربى من الجان تطاردنى منذ الطفولة»
ولعل السبب فى كل ذلك أن المرض دائما يهاجمنى فأصبح بالنسبة لى يمثل مشكلة خطيرة جدا فما بالكم بطفل صغير لا يستطيع أن يجرى ويصارع من هم فى مثل عمره..
حالته الصحية متدهورة ولا تسمح بذلك والحقيقة أنى من أجل هذا اخترت كلية الطب دون غيرها من الكليات إضافة إلى أسباب أوضحتها سابقا حيث كانت كلية الحقوق فى ذلك الوقت من كليات القمة ويتخرج فيها الوزراء والسياسيون ورغم إلحاح الأسرة على بأن ألتحق بها إلا أنى تمردت على رغبتهم «الواضح حياتى كانت عبارة عن سلسلة من التمرد المستمر» واخترت كلية الطب لأننى حريص على التعرف على أدق تفاصيل وأسرار الأمراض والأزمات الصحية وكيف يمكن التخلص منها.
أردت أن أتعرف على طريقة أتخلص بها من عللى ومرضى المستمر الذى لم يستطع طبيب أن يشفينى منه واكتشفت فى هذا التوقيت أن الموت والمرض مشكلة كبرى بالنسبة لى فالمرض بالنسبة لى يمثل الموت وأن المؤشرات والعلامات التى تسبقه قد تتمثل فى موت العينين والساق والذراع والإحساس وعانيت كثيرا من أجل الوصول لما توصلت له وعندما مارست الطب سنتين بعد التخرج كنت أعتبر أنى حققت انتصاراً كبيراً على الموت عندما أتغلب على المرض الموجود داخل المرضى، ولكن كان يصيبنى الإحباط الشديد عندما ينتصر المرض على ويسوق أمامه للموت روح مريض وينظر لى ويخرج لسانه معلنا أنى لا أقوى عليه وذهلت عندما وقفت لأول مرة أمام طاولة التشريح.. أمام الجثة..
ولم تحدث لى عملية إغماء أو حتى مجرد شعور بالخوف كما كان يحدث لبعض زملائى وتعلمت من يومها أن كل إنسان يحمل الموت بداخله وبأنى أحمل الموت بداخلى أيضا حتى ولو كانت صحتى جيدة وأن الموت يسكن معى وتعلمت أن الإنسان كلما ازداد عمره سقطت الخلايا الميتة من جسده،
وأن اللعاب الذى يطرده من فمه يحمل بداخله ملايين الخلايا الميتة وأن دم الإنسان يحوى كل ساعة ٦٠ مليون خلية من الخلايا الحمراء والخلايا البيضاء وبعد صراع مرير تقتل خلايا الدم البيضاء البكتيريا الموجودة بخلايا الدم الحمراء وتسوق جثث الموتى إلى الكبد الذى يمكنه التعامل مع هذه الجثث ويحولها إلى مرارة وصفراء والجسم يتعامل مع كل هذه الجثث.. يحللها ويستفيد منها ويحولها إلى عصارات مختلفة..
ووجدتنى أسأل نفسى هل كان الموت يعمل داخلى طوال هذه السنوات ليل نهار وأنا لا أدرى بحقيقة المعركة الدائرة بداخلى؟
وعرفت من يومها بأن الموت أكبر من أن يكون كلمة فهو واقع يدور داخلى وأن عملية الهدم والبناء تتم دون أن أدرى وأن الهدم داخلى وداخل كل إنسان منذ الولادة ولكن البناء غالب عليه حتى يحدث التوازن فى سن الأربعين ثم تبدأ عملية النزول والهدم التى تتزايد وبالتالى إذا كان البناء غالبا فأنا شاب وإذا كان الهدم غالبا فأنا دخلت مرحلة الشيخوخة وقد كنت منذ طفولتى أشعر بأن الموت قريب منى وأسمع خطوات أقدامه وهى تقترب منى كل يوم وكنت باستمرار أحدق فى الموت وأنظر إليه وأصرخ فيه كما كنت أفعل أمام المرآة وأنا طفل صغير «أنا أرى الموت..
أرى ملك الموت ولست خائفاً فكنت أتحداه دائما وأحدق فيه لدرجة أننى كنت أتوقع دائما أننى سأموت مبكرا ولم أتوقع أن أصل إلى الـ٨٨ عاما من عمرى وكنت دائما أقول سأموت فى سن الثلاثين ولكن «أنت تريد وأنا أريد والله يفعل ما يريد»
ورغم كل هذا ظل الموت معى يأكل ويشرب ويعيش ويتنفس بين ضلوعى ويسيطر على وجدانى وأصبح مشكلة وكارثة تصاحبنى أينما ذهبت.. ففى خلوتى الأخيرة التى امتدت لعشرين عاما ظهر لى كثيرا وواجهته كثيرا وتغلبت عليه وكنت أنا المنتصر.. وفى تكوينى وفكرى الموت مرتبط بشكل كبير بالفن والدين وبالفعل كان هو السبب فى تكوينى وفكرى وحبى للموسيقى.
والحياة بالنسبة لى كما يعرفها المقربون منى منذ الصغر نظام دقيق للغاية ومرتب،
فليس هناك شك أن الحياة والموت ليسا النهاية، ولكن البداية الحقيقية فى حياة البرزخ وهى الحياة التى تظل الأرواح جميعا متعلقة بها إلى أن يأذن الله بالفناء للبشرية الموجودة على الأرض ولهذا فإنى كنت دائما حريصاً على أن أفعل شيئا ما دام هناك متسع من الوقت يكفى لذلك وكان من الأسباب التى تدفعنى للعمل والإنجاز إحساسى بالموت الذى يقترب منى كل لحظة وكل ثانية.
كما أخبرتكما أن هذه الأفكار كانت تنتابنى وأنا طالب جامعى وكانت تظهر فى شكل مقالات مسلسلة فى مجلة (روزاليوسف) التى كانت منبراً صحفياً كبيراً وقتها لأنها تمردت على السياق العام للصحافة فى مصر.. كنت أنشر هذه المقالات سواء كانت فكرية عامة أو فلسفية بالخصوص إضافة إلى كتابة القصة القصيرة.. وبعد أن أنهيت الجامعة عملت فى مستشفى أم المصريين لمدة عامين..
فى هذه الفترة كانت حركة الضباط الأحرار فى عام ١٩٥٢ والتى رحبت بها كثيرا لأنها تمثل تمرد الجيش والشعب على النظام الملكى الفاسد فكان التمرد على الواقع هو ما يلفت انتباهى دائما ولكن خذلتنا هذه الثورة بعد ذلك فقد حررت الدولة المصرية لاستعباد الشعب المصرى وكنت وقتها أداوم على نشر مقالاتى فى «روزاليوسف» عندما فوجئ إحسان عبدالقدوس باستدعائه من قبل رجال الثورة
«كان هذا أول صدام بينى وبين جمال عبدالناصر» للتحقيق معه حول ما نشر بمجلته وكيف يقوم مصطفى محمود بنشر هذه الأفكار فى مجلته
وقال إحسان لهم «أنا أعطى الحرية للكتاب الذين يعملون داخل مجلتى وأؤمن بالحرية التى تؤمنون بها والتى تنادون أنتم بها.. من الممكن أن أكون غير متفق مع مصطفى محمود فى أفكاره وفيما يكتب لكننى لا أستطيع تقييد حريته والأمانة الصحفية تمنعنى من التدخل بل وأن أعطيه مساحة ليعبر عن رأيه وليس هو وحده ولكن هذا ينطبق على كل الصحفيين فى مجلتى وحق الرد متاح للجميع».
أنتم تلاحظون أن إحسان عبدالقدوس قد دعمنى ووقف بجانبى وقت أن كان هو العملاق عبدالقدوس ولم ينس رجال الثورة وعلى رأسهم عبدالناصر هذا الموقف لإحسان وردوا عليه بعد ذلك بسحله وسجنه وكيف أنهم لم يستطيعوا أن يدينونى أيام المقالات وظهر موقفهم عندما جمعت هذه المقالات فى كتابى الأول «الله والإنسان» عام ١٩٥٦ إذا غضضنا النظر عن المجموعة القصصية الأولى «أكل عيش».
على الرغم من أن الإعلام لم يكن بمثل هذا الحجم وكان الاعتماد كله على الصحافة الورقية إلا أنك تستطيع أن تؤكد أن الحياة فى مصر قد توقفت بالفعل بعد إصدار الكتاب ورواجه
. لم يعتد الناس على مثل هذه الأفكار أو على الأقل هذه الطريقة فى طرحها.. انقلبت الدنيا من حولى.. أصبح كل واحد يكتب عن الموضوع بمزاجه، من وصفنى بأننى فيلسوف العصر الجديد ومن وصفنى بالملحد والشيوعى والكافر و.. و..
وهنا ضحك مصطفى محمود حتى دمعت عيناه اللتان أصابهما المرض مؤخرا.. وقال من الطريف أن دارا حكومية «دار الجمهورية للنشر» هى التى وافقت على طبع الكتاب ونشره وكان يشرف عليها فى ذلك الوقت أنور السادات وحقق الكتاب رواجا كبيرا..
والطريف أيضا أن المفتى كان قد قرأ هذا الكتاب وأبدى رأيه بأن هذا الأسلوب يبشرنا بكاتب كبير وعالم ومفكر وكان هذا اعترافا رسميا من الدولة بهذا الكتاب وقيمته
ولكن قضاة التفتيش الجدد رفضوا الكتاب وثاروا وهاجوا وسبوا وقالوا هذا الكاتب أصابه الجنون أو كفر وقدموا مجموعة الشكاوى ضدى للقضاء وتمت مصادرة النسخ المعدودة المتبقية فى الأسواق من الكتاب بعد أن تخاطفه الكثير من المصريين الذين كانوا يرغبون فى من يكسر لهم الظلام ويطير الخفافيش التى تتزايد داخله ويفسر لهم حقيقة ما يجرى لأنهم سئموا من أن تفرض عليهم الأشياء باعتبارها «واقع ولازم يقبلوه»..
وتحولت الدعاوى التى قدمت ضدى إلى قضية كبرى تناولها معظم صحفيى مصر ، وظلت القضية تنظر أمام محكمة أمن الدولة شهوراً خرجت خلالها شائعات كثيرة ومتعددة وكان من بينها «أنهم سيحكمون بكفرى وارتدادى عن الدين ومن ثم إعدامى،
وآخر أن علماء الأزهر انتهوا بالفعل للحكم علىّ بالكفر والارتداد عن الدين» وظلت الشائعات تظهر شائعة تلو الأخرى وتتردد فى أرجاء مصر حتى تقرر إصدار الحكم فى القضية فى شهر رمضان وذلك بغرض تشديد الحكم وعدم استخدام الرأفة وأتذكر أيامها أن إحسان عبدالقدوس استعان بمحام كان اسمه محمود وكان قد اشتهر وبرع فى الترافع عن جرائم النشر وكان يتحدث عما يجرى من أعمال قمع وقهر وإرهاب وديكتاتورية ومصادرة الكتب والأفكار
وأذكر أيضا أنه أثناء المرافعات قال لى إن ما كتبته فى كتابك هذا كلام يستخدمه كبار الصوفية وبعد سلسلة مرافعات طويلة استغرقتها المحاكمة التى كانت تتداول فى حجرة مغلقة وسرية واستغرقت المرافعات ساعات طويلة
ولكن لا يستطيع القضاة فى ذلك الوقت الحرج فى تاريخ مصر إلا إرضاء جمال عبدالناصر الذى أصدر حكمه من أول يوم بمصادرة الكتاب ورغم كل المرافعات وما استندت إليه من أقوال الصوفية فقد أصدرت محكمة أمن الدولة الحكم بمصادرة الكتاب وعدم خروجه للنور وبالطبع خرج الحكم دون حيثيات ورغم ذلك صادروه بأمر جمال عبدالناصر.
وتقبلت اتهامى بالكفر وأنا فى بداية حياتى بأن أغلقت على نفسى باب شقتى.. واعتزلت من هول الصدمة حيث كانت عواطفى مازالت حساسة فلما أخذت الأفكار تهاجمنى.. لقد كفرونى لأنى امتلكت نفس ما امتلكوه.. نفس مؤهلاتهم.. القدرة على جذب الانتباه.. القدرة على جعل الآخرين يستمعون ويؤمنون بما أقول.. كفرونى.. قالوا نقضى عليه وهو صغير.. وناجيت روح أبى.. لقد اتهمونى بالكفر يا أبى.. أنا ابنك اصطحبتنى إلى المسجد وأنا ابن الثالثة وألبستنى الطاقية والجلباب الصغير.. أنا الذى حفظتنى القرآن والحديث بينما مازال من فى مثل عمرى يلعبون فى تراب الشارع..
أين أنت يا أبى لتدفعهم بعيدا بأيديك الكبيرة الحانية.. لا تدفعهم بعيدا عنى فقط بل تدفعهم بعيدا عن هذا البلد الطيب.. الذى يحاوطونه كالسرطان.. وجعلوا من يفكر يكفر.
جاءت أمى إلى.. جاءت بجلبابها وطرحتها.. افترشت سجادة الصلاة وأخذت رأسى فى حجرها.. وظللت فترة طويلة على هذا الحال.. ورغم أن معظم أفكار الكتاب لم تقترب من الأساسيات والثوابت مثل الله بل كانت فى (مسألة القضاء والقدر والجنة والنار والصواب والخطأ وقضايا الجبر والاختيار والبعث والخلود)
إلا أن رجال الدين يعتبرون أن مجرد التفكير فى مثل هذه الأشياء هو الكفر ولكنهم لا يعلمون أن التفكير فى مثل هذه الأشياء منتهى الإيمان لأننى مفكر أبحث عن أشياء تزيد من إيمانى وتعلقى بالله سبحانه وتعالى وقديما كانوا يفكرون فى هذه الشكوك دون أن يعرضوا للرجم أو القتل .
فى بعض الأحيان قادنى تفكيرى لأتساءل هل كان ضروريا نزول الوحى والإلهام بواسطة جبريل على النبى صلى الله عليه وسلم ولماذا لم يلهمه الله مثلما ألهم الفنانين والموسيقيين والعلماء فى لحظات الإبداع والاختراع؟
وكانت قصة الوحى تشغلنى بشكل كبير وكنت دائما أفكر فيها ولكن بمجرد أن طرحت السؤال وبدأت البحث عن إجابة تعالت أصوات بتكفيرى مرة أخرى وكأنه لا توجد تهمة للمفكرين والباحثين عن الحقيقة غير التكفير وهذه القضايا تغير تفكيرى فيها بعد وصولى لليقين فسبحانه وتعالى كان لابد أن يميز رسوله عن بيتهوفن وجوخ وبيكاسو وقيس وعنترة،
وبعد بحث طويل فى القرآن أحسست أنه كتاب عجيب دستور لكل البشر وذلك لأنى حين قرأت كل الأديان أحسست أنها جميعا تتحدث عن شىء واحد لاشك فيه هو وحدانية الله ولكن اكتشفت أن الأديان القديمة مضت عليها القرون وتم تحريفها ودخلتها مصالح الكهنة وكانوا هم السبب فى كل هذه الفروق بين دين وآخر فكل واحد منهم يريد أن يستغل الدين لأغراض ومصالح شخصية حتى فى مصر القديمة «الفرعونية» كانت الديانة توحيدية والدليل هو كتاب الموتى ولكن الكهنة الذين يريدون أن يشيدوا المعابد اخترعوا آلافاً من الآلهة ليحصلوا من ورائها على القرابين وهذا ما حدث مع الأنبياء أيضا فكلما مات نبى خرج المنتفعون وحرفوا ليستفيدوا بالمكاسب المادية وجاء بعد ذلك عصر الملوك والرؤساء والسياسات المختلفة التى نعرفها الآن والتى زادت الأمر سوءا حيث إن العلمانيين يرددون شعارهم «كيف أسير إلى الأمام وأنا ألتفت إلى الخلف» ومن هنا يقولون العلم يتناقض مع الإيمان وقد نسوا أن كتاب الله سبحانه وتعالى يقود إلى أفضل طريق.. إلى الله..
وبعد مصادرة كتابى وجدت الماركسيين فى مصر يرفعوننى إلى السماء ويعلنون أنى أصبحت من كبار مفكرى الماركسية والشيوعية فى مصر وازداد إعجابهم بى وتأييدهم لى عندما كتبت قصة عن رجل زبال ونشرتها فى مجلة صباح الخير وكانت المجلة فى بدايات إصداراتها وبعدها وجدت أن الشيوعيين يصفوننى بأنى أعظم كاتب وأكبر مفكر وقيل عنى يومها إن تشيكوف مجددا يظهر فى مصر يحمل اسم مصطفى محمود وكنت مندهشا لكل ما يحدث حولى ومندهشا أكثر لإعجابهم بهذه القصة رغم أنها قصة عادية للغاية ولم أشترك معهم أو أنضم إليهم بل تجاهلتهم بعد ذلك بأن حذفت هذه القصة من جميع مؤلفاتى،
ولكنهم سرعان ما تحولوا ضدى بعد ذلك ووجهوا إلى الكثير من الاتهامات ومنها الردة الفكرية وكانت مدرسة ظهرت فى ذلك الوقت على يد محمود أمين العالم وكانت ترغب فى أن ينادى الكتاب جميعهم بالاشتراكية العلمية والشيوعية والماركسية ومن يخالفهم لا يعد أديبا أو مفكرا وأكبر دليل أنهم رفعونى إلى السماء ولذلك قرأت عن الفكر الماركسى بإمعان فلم أشعر باقتناع ودار داخلى حوار طويل ووجدت أنه يجب أن أغلق على نفسى باب حجرتى وظللت أمارس قراءتى فى معظم كتب الفلسفة وعلم النفس مثل (أفلاطون وأرسطو وهيجل وبكارل وماركس ووليم جيمس) وقراءة الأديان (الفيدات الهندية والبوذية والزرادشتية)
وفى النهاية وصلت إلى الإيمان فى حين أن اليسار فى الستينيات كان قد أصبح اتجاها قوياً موجوداً على الساحة وله ثقله وقد توغلت يده إلى الأدب والسينما والمسرح فتسبب نظام الاقتصاد الشمولى الذى طالب به فى الفقر والجوع للمصريين وهذا ما توقعته ولكنهم بعد ذلك وفى دقائق معدودة وجدوا صحف العالم والإذاعات والشعوب تنادى بسقوطهم.. سقوط الشيوعية..
وسقط هؤلاء الأشخاص الذين عندما تمردت على أفكارهم وانتقدتهم اغتالونى فى موهبتى وفكرى وجردونى حتى من لقب الكاتب واتهمونى بالتخلف وهذه هى أفكارهم وطباعهم لأن الشيوعية والشيوعيين تنظيم إذا صادف فى طريقه كاتبا يميل لأفكارهم فإن مهمتهم تكون جذبه إليهم ومن بعد ذلك بدأت أعيد النظر فى كل شىء حولى
وبدأت بمراجعة كتابى الأول «الله والإنسان» ووجدته مليئاً بالثغرات التى عدلت عنها وصححتها فى كتب أخرى.. وأنا هنا أعلن لأول مرة أننى تراجعت عن كل الأفكار المادية التى لا ترتبط بالدين والتى جاءت بكتابى الأول «الله والإنسان».
■ كفرونى لأنى امتلكت نفس ما امتلكوه.. نفس مؤهلاتهم.. القدرة على جذب الانتباه.. القدرة على جعل الآخرين يستمعون ويؤمنون بما أقول.. كفرونى.. قالوا نقضى عليه وهو صغير
■ أغلقت على نفسى باب شقتى.. وناجيت روح أبى.. لقد اتهمونى بالكفر يا أبى.. أنا ابنك الذى اصطحبتنى إلى المسجد وأنا ابن الثالثة.. أنا الذى حفظتنى القرآن والحديث بينما مَنْ فى مثل عمرى لم يتخطوا مرحلة اللعب فى تراب الشارع.. أين أنت يا أبى لتدفعهم بعيدا عنى بأيديك الكبيرة الحانية.. لا تدفعهم بعيدا عنى فقط بل تدفعهم بعيدا عن هذا البلد الطيب.. الذى يحاوطونه كالسرطان.. وجعلوا من يفكر يكفر
■ جاءت أمى إلىّ والتى كانت تتمثل فى شخصية أختى الكبيرة زكية.. جاءت بطرحتها وجلبابها.. افترشت سجادة الصلاة وأخذت رأسى فى حجرها.. وظللت فترة طويلة على هذه الحال.. حتى نهضت من جديد
■ كان يجب ألا أترك الساحة لخفافيش ظلام جدد.. لقضاة فى محاكم تفتيش جديدة
■ إن الناجح هو ذلك الذى يصرخ منذ ميلاده: جئت إلى العالم لأختلف معه.. لا يكف عن رفع يده فى براءة الأطفال ليحطم بها كل ظلم وكل باطل.
الصدام مع عبدالناصر
■ إن الاستسلام للمنطق والعقل وحده فيه استئصال لأجمل ما فى الإنسان.. روحه.. ووجدانه.. وضميره ولو لم يكن إبليس موجودا لأوجدناه
■ إننا لا نستطيع أن نعيش دون أن نسمع ذنوبنا
■ هناك شبح نلعنه كل يوم ونرجمه لأنه غرر بنا
■ نحن نساعد فى خلق الأباطرة والجبابرة
■ بل نحن الذين نخلقهم ونشكلهم بأيدينا
■ إن الشياطين من صنع أيدينا والإجرام قرين لكل منا
■ لأننا جميعا أبناء القاتل قابيل
■ لكل منا قرين ولكن يوجد من يسيطر على قرينه ويوجد من يسيطر عليه قرينه
■ إن السم لا يزرع ولا يصنع ولكنه يخرج من حقدنا وحنقنا لبعضنا البعض
■ ولا يحين الموت إلا بعد أن ينتهى الأجل
■ فالموت قرار من الله وحده
مصطفى محمود
مازال المفكر الكبير والفيلسوف مصطفى محمود يفتح حقيبة أسراره ويطلعنا على ما تحويه دفاتره ويخرج كل ما بداخلها من أسرار.. مازال قلبه ينبض.. مازال عقله واعيا يتذكر كل تفاصيل رحلته الطويلة التى قضاها باحثاً عن اليقين يحاول الوصول للحقيقة الغائبة عن الجميع، يقول مصطفى محمود
: ليس من السهل أو المعقول أو الطبيعى على الطيور أن تكف عن التحليق فى الفضاء، أو على العصفور أن يسجن فى قفص حتى ولو كان من الذهب والأحجار الكريمة، أو على المفكر أن تحجب أفكاره وترصد الرقابة قلمه وتختار نوع الحبر الذى ينسج به كتاباته،
وبالتالى لم يكن من السهل أن تحجب عنى كل ألوان الحياة من الماء والهواء والضوء والحياة التى تتمثل فى الكتابة والتعبير عن الرأى، وإخراج كل ما يدور داخلى من صراع وأفكار تحاول إثبات حقيقة المسلمات ـ التى تكلمت عنها من قبل ـ ولكن هذه كانت طبيعة الظروف والأحوال فى عهد الديكتاتورية التى مرت بها مصر.. عهد تحرير المصريين لاستعبادهم،
هذا بكل بساطة وصفى ورؤيتى لعهد جمال عبدالناصر فمهما تقدم بى العمر وطعن السن فى الشيخوخة ووصلت إلى أواخر أيامى فلن أنسى ما كان يحدث فى عهده من فتح السجون والمعتقلات ومصادرة الفكر والرأى،
وبالطبع عانيت فى تلك الفترة لأننى كنت أحد الكتاب البارزين خاصة بعد أزمة كتابى الأول «الله والإنسان» فكنت أتوقع أنه فى أى لحظة لابد أن يقع بينى وبين عبدالناصر الصدام الذى وقع مع الجميع من قبلى، وبالفعل فوجئت بأن إحسان عبدالقدوس يطلبنى فى مكتبه بـ«روزاليوسف» وتوجهت إليه مباشرة، وعندما دخلت إلى السكرتارية لكى تبلغه بأنى أنتظره فوجدتها تقول لى: ادخل الأستاذ مستنيك على نار منذ أكثر من ساعة ولغى كل مواعيده.
فانتابتنى أفكار بأن هناك شيئاً خطيراً حدث أو منتظراً أن يحدث ولكننى تجاهلت كل هذه الأفكار ودخلت عليه المكتب فوجدته من الوهلة الأولى يقول لى وهو يبتسم: أهلا يا مغلبنى وبسببه طاير النوم من عينى. وكأنه كان يهدأ من وطأة المسألة، وقلت له: خير يا إحسان فى قضايا تانى اترفعت عليا ـ فقد كنت خارجاً من قضية كتاب «الله والإنسان» لسة طازة.. فقال: يا مصطفى اجلس فى البيت.. فقلت له يعنى إيه.. قال صدرت أوامر بمنعك من الكتابة، فقلت من أصدر هذه الأوامر ولماذا أتوقف عن الكتابة؟..
قال يمكن أن يكون بسبب المقالتين اللتين قمت بكتابتهما ونشرهما مؤخرا.. ثم أن أمر الإيقاف من قيادات عليا جدا.. فقلت له مين يعنى.. الراجل الكبير.. هز رأسه بالإجابة «نعم»
وقال: يا مصطفى احمد ربنا إن المسألة منع من الكتابة بس ومفيش اعتقال ولا سجن،
فابتسمت رغم أنى أتمزق بالداخل لما سمعت
وقلت له: ومن أدراك فلابد أن الاعتقال سيأتى عن قريب إن لم يكن الليلة..
وسلمت عليه بحرارة وقلت لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا.
. فقال: يومين وهترجع تانى متقلقش وانصرفت من مكتب إحسان عبدالقدوس وأنا يداهمنى شعور رهيب بأنه سيتم اعتقالى ولن تمر على الليلة إلا وأنا داخل أحد السجون أو المعتقلات، فهذا كان سلوكاً سائداً فى تلك الفترة وتجولت فى شوارع القاهرة دون الشعور بالوقت حتى وجدت أن قدمى قادتانى إلى شقتى دون أن أدرى ودخلت الشقة وأنا يداهمنى شعور غريب بأن هناك من يراقبنى ولهذا أيقنت بأننى سأتعرض للاعتقال فى هذه الليلة لا محالة،
فجلست فى شقتى أنتظر طوال الليل عملية القبض على مستعداً تماماً بعد أن قمت بتجهيز حقيبتى التى وضعت بها «مجموعة كتب وغيارين داخليين وبيجامتين ومكنة حلاقة ومجموعة أمواس وصابونة ومعجون أسنان وفرشاة وشبشب حمام»
واعترف بأن هذه الليلة كانت أصعب ليلة مرت على فى عمرى كله وفى حوالى الساعة الثالثة ليلاً وجدت طرقاً شديداً على الباب، وعرفت أن ما توقعته يتحقق فتوجهت لأفتح باب الشقة لكى أواجه مصيرى وقدرى الذى لا مهرب ولا مفر منه، وشاهدت ثلاثة ضباط ومجموعة من العساكر الذين دخلوا الشقة مندفعين إلى الحجرات دون استئذان،
وقبل أن أفتح فمى أخرج الضابط من جيبه أمراً بالقبض على موقعاً من عبدالناصر شخصياً
فحملت حقيبتى بعد أن فتشوها وركبت سيارة الترحيلات وتوجهت إلى السجن الحربى، وواجهت بداخله أشد أنواع التعذيب البدنى والنفسى وفجأة استيقظت من النوم لأجد نفسى داخل حجرة نومى، ويتضح لى أن كل ما شاهدت من «تعذيب وضرب بالسيط والنوم فى حجرة مليئة بالمياه فى ليالى الشتاء قارسة البرودة»
كانت جميعها أحلاماً وكوابيس هاجمتنى طوال فترة نومى، لأن عملية القبض على شغلت تفكيرى ساعات كثيرة قبل خلودى إلى النوم، وارتحت بعض الشىء لأنه لم يتم القبض على فى الليلة الأولى بعد فصلى من العمل ونفيى فى البيت ـ فهكذا كنت أسمى أيام توقفى عن الكتابة بأنها أيام النفى - ولكن لم يتركنى الشعور بأنى سأعتقل ولكنى خرجت من كابوس اعتقالى لأواجه كابوساً ومعاناة أخرى ومختلفة وهى مسألة الإنفاق والمصاريف، فشغلت تفكيرى كثيراً مسألة كيف سأعيش بعد أن فقدت مهنتى ككاتب صحفى فى «روزاليوسف» وهناك قرار بمنعى من الكتابة فى أى جريدة أخرى وليس لى أى مصدر دخل أو رزق آخر.
لكن العناية الإلهية لم تنسنى فأثناء تفكيرى ومحاولة تدبير الحاجات بما تبقى معى من راتب وجدت أحد أصحاب دور النشر يطلب منى إعادة طباعة بعض الكتب التى طرحت بالأسواق لشدة إقبال الجمهور وطلبه المستمر لها فوافقت فى الحال، وكان عائد هذه الكتب هو مصدر الدخل الوحيد لى طوال فترة النفى، ورغم أن مشكلة الإنفاق والمصاريف قد دبرت إلا أننى كنت أعانى المشاكل النفسية التى تمزقنى وتشتت أفكارى، فالكتابة تمثل كل حياتى وكيانى فأصبحت تطاردنى مشاهد من داخل «روزاليوسف» وأيام نزولى إلى حجرة الأرشيف واطلاعى عليه وأنا أقرأ وأتأمل إعلانات كانت تنشر قبل قيام الثورة وطرد الملك فأين سعد حسين المطرب الصاعد الآن؟!
وهل كان يعلم بما سيحدث من ثورة وإذاعات موجهة ترسم اتجاهات وأذواق البشر.. كيان كامل اختفى وذاب كما يذوب الملح فى الماء، أصبحت خيالات أننى سأختفى ولن أصبح حتى ذكرى ليتذكرنى الناس تطاردنى من غرفة نومى إلى البلكون إلى الصالون، وحتى وأنا بجوار الراديو أستمع إلى موسيقى وغناء عبدالوهاب لا تتركنى هذه الأفكار المجنونة والمحطمة، عشت ومررت بحالة نفسية سيئة جداً كنت أشعر فى معظم الأحيان بأننى أنتظر تنفيذ حكم بالإعدام أو قرار بالإفراج وكل هذا لأننى أعلنت عن رأيى فى الماركسية وهتلر والنازية فى مقالتين، وكان جزاء الرأى النفى فقد تحولت مصر فى تلك الفترة إلى مقبرة للمفكرين وأصبحت الكلمة لا تصل صحيحة للناس، وأبرهن على ذلك «بأن أكبر دليل على تزييف الكلمة ما قرأناه وسمعناه بالكذب عن انتصارات ساحقة فى حرب ٦٧ من الإذاعة والصحف المصرية»، ولذلك بدأت أخرج كل ما بداخلى فى الكتابة..
والكتابة الخفية التى لا يراها أحد غيرى.. فبدأت أكتب مجموعة موضوعات غريبة وعجيبة عن أينشتاين وغيره من الفلاسفة وأخرجت كل حنقى على الاشتراكية والديكتاتورية، ولكنى كنت أشعر فى أحيان باليأس فكيف أقوم بكتابة رأيى حيال ما يحدث فى مصر ثم أقوم بإخفائه وتخبئته
فبدأت بكتابة كتاب «الإسلام والماركسية» وحاولت أيضا أن أكسر هذا الشعور الرهيب بالوحدة، فاتجهت إلى القراءة بشكل شرس وتعمقت فى المسرح حتى قمت بكتابة ثلاث مسرحيات أخرجت فيها كل ما كان يدور بداخلى من مشاعر بالظلم، وتناولت بداخلها النظام الديكتاتورى الموجود وقتها، والذى قام بتعذيب وتهجير وتشريد وسجن وقتل المفكرين والكتاب لأنهم يريدون الإصلاح ويعبرون عن أفكارهم وآرائهم فى كل ما يحدث حولهم، وكل هذا أظهرته فى كتابتى لثلاث مسرحيات «الإنسان والظل، الزلزال، الإسكندر الأكبر» ـ وأخفيتها حتى مات عبدالناصر وقمت بنشرها فى عهد السادات وهذه المسرحيات حاولت بها مسرحة الواقع السياسى والاجتماعى الذى واجهته مصر وقتها، فقد كانت أفعال عبدالناصر جميعها شكلاً من أشكال الفوضى الخاطئة..
وطالت فترة حجبى ومنعى من الكتابة حتى أنها وصلت إلى عام كامل من العزلة فى منفاى، وفى إحدى الليالى الصافية الجميلة فوجئت بكامل الشناوى يقوم بزيارتى ويقول لى مقولته الشهيرة
: أنت تلحد على سجادة الصلاة، ولهذا فقد قمت بزيارة هيكل وتحدثت معه عن الأزمة التى حدثت لك وهو يريد رؤيتك فى مكتبه بالأهرام. وفى اليوم التالى ذهبت إلى هيكل وقابلنى بقوله: إزيك يا مصطفى وعامل إيه.
قلت له: أنا مش كويس طول ما أنا بعيد عن الكتابة. فقال لى: ارجع اكتب من اليوم لو حبيت. فسررت بشدة ولكننى كنت على يقين بأن هيكل هو الوسيط الوحيد الذى يمكن أن يقبل عبدالناصر منه كلاماً أو وساطة فى موضوعى لمدى قربه منه وثقته فيه ولكننى لم ألجأ إليه منذ البداية.. وعندما سألناه لماذا لم تلجأ إليه رفض الخوض فى التفاصيل وانتقل إلى موضوع آخر.
قال مصطفى محمود: لأن القدر يلعب دوره دائما معى فبالترتيب الإلهى فقط.. حدث أثناء عام النفى والحجب عن ممارسة الكتابة أن قابلت زميل الدراسة فى كلية الطب وصديقى الذى كان حبيباً إلى قلبى الدكتور أنور المفتى، وكان يعمل طبيباً خاصاً لعبدالناصر وطلبت منه التحدث إلى عبدالناصر لكى أعود إلى الكتابة من جديد، ووجدته يقول لى:
يا مصطفى أنت تعرف مدى حبى الشديد لك وبسبب هذا الحب فكرت حينما علمت بمنعك من الكتابة أن أتحدث إلى عبدالناصر أثناء إشرافى الطبى اليومى عليه، لكننى تراجعت لأن هناك قصة منتشرة حوله وهى أنه يجازى من يطلبون منه طلبات خاصة، حيث تجرأ ذات مرة سائقه الخاص وطلب منه طلباً خاصاً فأصدر قراراً بفصله من العمل فى اليوم التالى مباشرة، ولهذا فقد انتابنى شعور الخوف لأنه سيترتب على ذلك إبعادى عن عملى ووظيفتى كطبيب خاص له مثلما أبعد سائقه الخاص،
كما أنه يمكن أن يظن أننى أؤمن بنفس أفكارك وبالتالى سيترتب على ذلك شعوره بأننى خطر على حياته، خاصة وأنا طبيبه الخاص فيلفق لى تهمة ترمينى وراء الشمس وأنا لى زوجة وأولاد كما تعرف، كما أننى بحكم قربى منه سمعت وعرفت وشاهدت كيف يختفى من الوجود من يعارضه بمجرد إشارة من إصبعه خاصة وإنه يكرهك ويقول عليك «الواد ده ملحد وخطر على المصريين»، فقلت له لهذه الدرجة كرهه لى وقسوته مع من يتعاملون معه، فقال الدكتور أنور المفتى:
عبدالناصر يتمتع بعصبية غير عادية ومريض بجنون العظمة ويمكن أن تقول عليه «مجنون بذاته».
. والغريب أنه بعد أقل من ثلاث سنوات توفى الدكتور أنور المفتى فى ظروف غامضة وتعددت الشائعات حول وفاته.. لكن الثابت فى التحقيقات أن زوجته قالت إنه ليلة وفاته بعد عودته إلى المنزل «تناولنا العشاء، وبعد ذلك نظر فى المرآة بعض الوقت وقال لى أشعر بأنى لن أعيش أكثر من أربع ساعات» إذ أنه اكتشف أعراض تسمم تظهر عليه ومن بينها كان «بؤبؤ» عينيه يتحرك وهذا الحادث أثر على كثيراً.. وأثارنى أنا وغيرى من أصدقاء الدكتور أنور المفتى.. ولم نجد تفسيراً أبداً لهذا السؤال: من اليد الخفية وراء مقتل أنور المفتى.. ومن المستفيد من وفاته!
والعجيب أنه أثناء انشغالنا بهذا الحادث كثيراً فوجئنا بوفاة عبدالحكيم عامر بنفس الأسلوب دون تفسير أو إعلان عن حقيقة ما حدث له، وزاد الأمر بشكل كارثى بعد نشر التحقيقات مع صلاح نصر عقب القبض عليه، واعترف بأنه كانت دائماً بحوزته سموم من أنواع نادرة وكان يستعملها كلما وجد الحاجة لإسكات بوق عالى الصوت.
وانتهت هذه الحكايات بموت عبدالناصر نفسه.. هناك تساؤل يجب ألا يمر دون أن نقف أمامه وهو: كيف توفى جمال عبدالناصر؟!
قيل عن وفاته الأقاويل الكثيرة والمتعددة، وكان من بينها أنه مات مسموماً، ولكن الحقيقة أن عبدالناصر مات لأنه مريض بالسكر ولتقصير وإهمال الطبيب فى تشخيص حالته الصحية بالخطأ، فكان يمكن إنقاذه من الموت بحقنة جلوكوز فى الوريد فتنتهى أزمة وغيبوبة السكر التى تعرض لها، ولكن أخطأ الطبيب الذى يعالجه أو ربما تعمد الطبيب أن يخطئ وعرف تشخيص حالته بشكل صحيح ولكنه لم يسعفه فقد مات عبدالناصر نتيجة غيبوبة السكر التى هاجمته، حيث كان مريضاً «بالسكر البرونزى» وهو أحد أندر أنواع مرض السكر، ومن أسهل ما يمكن أن يموت مريض هذا النوع فى حالة إذا تعرض للإهمال الطبى، وهذا هو ما حدث.
محاكمة الناصرية
إن غروب الشمس وانسدال العتمة فى حنان والنظام المحكم الذى يمسك بالنجوم فى أفلاكها وإطلالة القمر من خلف السحاب وانسياب الشراع على النهر وصوت السواقى على البعد وحداء فلاح لبقراته ونسمات الحديقة تلف الشجرات التى فضضها القمر كوشاح من حرير، إذا اقترنت هذه الصورة الجميلة من النظام والتناسق بنفس تعزف داخلها السكينة والمحبة والنية الخيرة فهى السعادة بعينها، أما إذا اقترنت هذه الصورة من الجمال الخارجى بنفس يعتصرها الغل والتوتر وتعشش فيها الكراهية وتنفجر داخلها قنابل الثأر والحسد والحقد ونوايا الانتقام فنحن أمام خصومة وتمزق وانفصام، نحن أمام هتلر لا حل له إلا أن يخلق حرباً خارجية تناسب الحرب الداخلية التى يعيش فيها، نحن أمام شقاء لن يهدأ إلا بأن يخلق شقاء حوله
مصطفى محمود
لم يستطع مصطفى محمود أن ينسى أيام العزلة.. أيام النفى.. رغم مرضه الشديد، لايزال يتصفح أوراق الحياة التى انطوت ويتذكر أيام الشباب التى ولت.. أيام من ربيع العمر.. فقبل أن يتكلم تنهد تنهيدة طويلة وقال: ليت الشباب يعود يوماً ثم قال: كانت أيام الشباب مليئة بالحيوية والصراع والمنافسة، التى ربما كانت تغضبنى كثيراً، ولكنها كانت أياماً جميلة مرت كالنسيم فى ظلمات ليال صيفية بديعة ثم ابتسم قائلاً.. وكانت هذه الأيام أيضاً جميلة بالنسبة لهيكل.. التى تبدلت بعد ذلك فى عهد السادات إلى أيام صعبة بالنسبة له انتهت باعتقاله..
فهو الصحفى الوحيد المقرب لجمال عبدالناصر فيثق فيه ويستمع إليه وكان منتشراً بين جميع الصحفيين والكتاب والمفكرين سواء كانوا صغاراً أو كباراً أنه «يا ويل من يغضب عليه هيكل»، وأرجح أن غضب هيكل قد أصابنى وكان سبباً فى حرمانى من الكتابة عاماً كاملاً فبعد أن كتبت مقالتين حملتا عناوين «هتلر والنازية والخروج من مستنقع الاشتراكية» وقبل أن أنشرهما قال لى أحد الأصدقاء: «المقالتان ستثيران غضب هيكل الذى لن ينسى أو يسهو أن ينقل غضبه لعبدالناصر وأنت تعلم مدى انصياع عبدالناصر له وثقته فيه»، ولكننى أصررت على نشرهما فى «روزاليوسف» وبعد نشر المقالتين بشكل متتال، ما توقعه صديقى تحقق فبعد النشر مباشرة صودرت أعداد روزاليوسف من الأسواق وخرج قرار إيقافى عن الكتابة
وكان المضحك أنه غير مسبب بمعنى «لم يصاحبه بشكل واضح سبب قرار الإيقاف»، ولكنى بالطبع كنت أعلم سبب الإيقاف وقام بإبلاغى قرار الإيقاف كما ذكرت من قبل إحسان عبدالقدوس.
ولقد تضمنت المقالتان هجوماً عنيفاً ضد عبدالناصر والذى لم تكن له حسنات تذكر على الإطلاق، فمن البداية استولى على قيادة الثورة ونشر العمل المخابراتى فى جميع أرجاء مصر فأصبح الجميع يكتبون تقارير سرية فى بعضهم البعض، وأصبح داخل كل أسرة شخص منها يتجسس عليها ويرفع التقارير إلى القيادات، فهذا بمنتهى البساطة وصفى لعهد عبدالناصر، وقد اكتفى الفيلسوف الكبير مصطفى محمود فى هذه الحلقة بهذه الكلمات التى تبدو قليلة ولكنها تحمل فى مضمونها معانى خطيرة ليطلع القراء على نص المقالتان اللتين تسببتا فى حرمانه عاماً كاملاً من الكتابة وهزتا كيان عبدالناصر، ولكن بعد أن قام بتعديلهما (وذلك لكى تشمل المقالتان العهد الناصرى بكامله وما ترتب عليه وأضاف لهما الأحداث الزمنية الجديدة) وقام بنشرهما مرة أخرى بعد موت عبدالناصر أيام السادات وفى وسط الثمانينيات.
المقالة الأولى:
تتكلم عن هتلر والنازية وحملت عنوان- سقوط اليسار- والتى قال فيها.
. لو سئلت ما المشكلة المصرية التى لها الأولوية المطلقة الآن لقلت دون تردد
: الفساد والسرقة والغش وخراب الذمم والكسل والسلبية والأيدى الممدودة التى تريد أن تأخذ ولا تعطى والأصوات التى تطالب بالحق دون أن تنادى بالواجب والنهم والجشع وتعجل الربح وضياع القيم وعدم الانتماء.. المواعظ لم تعد تجدى لأنها تخرج من أفواه لا تعمل بها، الكل يهدى ولا مهتد لو سئلت ما السبب لقلت سقوط الهيبة وانعدام القدرة وتراخى قبضة الحكم فى محاولة لإرضاء الكل، والحاكم الأمثل لا مفر من أن يغضب البعض ويصدم البعض ويواجه البعض بما لا يرضى لقد وقفت «تاتشر» أمام إضراب عمال المنجم ولم تهادن ولم تلن وطرحت القطاع العام للبيع رغم الاحتجاج والهتاف وأصوات الاستنكار، وأنقذت اقتصاد بلادها وعالجت التضخم،
وأعلنت أنها عائدة لتستأصل الاشتراكية من إنجلترا وحملتها أصوات الأغلبية إلى الكرسى من جديد تقديراً لشجاعتها، والإصلاح أحياناً يحتاج إلى جراحة وإلى إسالة بعض الدم لإنقاذ المريض من موت محقق والطبيب لا يكون طبيباً إذا افتقد هذا الحد الأدنى من الجرأة ليجرح ويضمد عند اللزوم وفى مصر تركة من الأخطاء القاتلة لابد من مواجهتها فى جرأة،
مجانية التعليم الجامعى التى حولت الجامعات إلى مجموعة كتاتيب لا تعليم فيها ولا تربية ولا حتى مجانية وأضعف الإيمان أن يحرم الطالب الراسب من هذه المجانية،
وأن يدفع تكاليف تعاليمه وإلا كان حالنا من يمول الفشل والرسوب والإهمال من الخزانة العامة والخمسون فى المائة عمالاً وفلاحين فى مجلس الشعب التى لا مثيل لها فى الصين أو الهند أو فى روسيا أو فى أى بلد رأسمالى أو اشتراكى والتى لم تكن سوى رشوة قدمها عبدالناصر ليستدر بها التصفيق والهتاف وحق التعيين لخريج الجامعة فى الوظائف الحكومية سواء وجدت هذه الوظائف أم لم توجد وسواء كانت هناك مسوغات وضرورات للتعيين أم لم توجد وهى رشوة أخرى
وبدل بطالة قدمه عبدالناصر من خزانة مفلسة ترزخ تحت عبء الديون لكل عاطل متبطل ليقود له المظاهرات ويوقع على الاستفتاءات، غوغائية زعيم أراد أن يكتل الشارع خلفه ليضرب به أى طبقة تناوئه
، الدرس الأول الذى تعلمه فى سنة أولى شيوعية فى كيفية الحفاظ على الكرسى اضرب الطبقات بعضها ببعض واشعل فتيل الحقد الطبقى ثم احتفظ بعربة الإطفاء الوحيدة يلجأ الكل إليك ويقبل الكل قدميك ويستنجد بك الخصم والصديق لأنك تكون حينئذ مرفأ الأمان الوحيد فى بحر الفتن والأحقاد والتناقضات وهكذا فعل صاحبنا فقد وعى الدرس وطبقه بحذافيره وهكذا ترك البلد بحراً من الفتن والأحقاد والتناقضات وميراثاً من الخراب لكل من حمله من بعده.
لأنهم يعلمون أنها القنابل الموقوتة التى تركها عبدالناصر بعد موته لتفرخ التناقضات والأزمات والمشاكل حتى تأتى على البنيان المتهالك من قواعده ولقد كان عبدالناصر يعلم حينما زرع هذه الوعود فى التربة المصرية أن الوفاء بها سيكون مستحيلاً كما أن الرجوع عنها سيكون مستحيلاً وأنها ستظل الشرخ القاتل الذى يقصم ظهر كل من يأتى بعده و«تاتشر» باعت القطاع العام فى المزاد بإنجلترا ووقفت فى وجه عمال مناجم الفحم المطرودين وأعلنت أنها عائدة لتستأصل الاشتراكية من بلادها وعادت تحملها إرادة الأغلبية إلى كرسيها من جديد وما ظن اليسار أنه مستحيل لم يعد مستحيلاً ولم يعد اليسار بالقوة التى كان عليها فى الخمسينيات والستينيات،
لقد تحول التيار السياسى فى العالم كله وسقط الفكر الماركسى حتى فى بلاده وتراجع اليسار فى إنجلترا وفرنسا وإيطاليا وإسبانيا وفقد أكثر مقاعده فى هذه الدول وفقد سمعته وفقد شرفه واليسار المصرى مجرد أعمدة فى الصحف وشعارات ولافتات وصيحات ولكن فى لحظة الامتحان لا يجد له رصيداً شعبياً ولا سنداً جماهيرياً وهو مجرد بقية مما ترك عبدالناصر وقد جاء وقت المواجهة ولا مهرب.. مواجهة الفكر بالفكر.. مواجهة الأكاذيب بالإحصاءات والأرقام الدقيقة.. مواجهة التزييف بالوقائع وبالتاريخ الثابت..
كما أن هناك من يقولون إن عبدالناصر ليس مسؤولاً عن الفساد والتدمير والإهمال والرشوة والخراب الذى وصل بنا إلى ما نحن فيه وهم يعلمون جيداً أن الفساد ما ولد إلا فى حكم عبدالناصر الذى غابت فيه الحرية وقطعت الألسن وقصفت الأقلام وسادت مبادئ النفاق والانتهازية وحكمت مراكز القوى وانطلقت عصابة القتل تعيث فى الأرض فساداً وما ولد الإرهاب الذى نعانى منه اليوم إلا فى زنازين التعذيب فى السجن الحربى بأمر وإشراف عبدالناصر فقد تسبب عبدالناصر وحكمه فى هزيمة منكرة وأرض محتلة ومصر صغيرة أصغر مما ورثها عبدالناصر بمقدار سيناء وبمقدار حجم السودان كله ثم يظهر أحمد بهاء الدين ليقول إن عبدالناصر ترك الخزانة مدينة بأقل من ألف مليون
واليوم هى مدينة بأربعين ألف مليون والظاهر أنه نسى أصول الجمع والطرح ونسى جدول الضرب أو تناسى أين أنفقت الأربعون ألف مليون وكيف أنفقت لإنشاء بنية أساسية تركها عبدالناصر منهارة مخربة أنفقت ليجد تليفونا يتكلم فيه ومواصلة يركبها وماء يشربه ومدناً سكنية.. يجد فيها الشباب غرفة يأوى إليها.. وكهرباء يقرأ عليها ومصادر طاقة وأمناً غذائياً يغطى احتياجات عشرين مليوناً زادوا فى التعداد منذ رحيل رجله وكل هذا بأسعار الثمانينيات وبالدولار الحاضر ثم حرب منتصرة محت عار وخزى ٦٧ بكل ما تكلفه الحرب المنتصرة ثم يمن علينا أحمد بهاء الدين بالسد العالى الذى أقامه صاحبه ولنذكره بالإنجازات الحافلة التى أنجزها صاحبه وكيف انتهت كلها إلى الإحباط وفى حياته الإنجليز الذين أخرجهم من القنال دخل مكانهم اليهود..
والقناة التى أممها ردمها.. والوحدة التى أعلنها مع سوريا رفضتها سوريا.. والاشتراكية التى تصورها راية قومية تجمع العرب تحولت إلى معركة تفرقهم.. ومجانية التعليم انتهت إلى حال لا هو مجانية ولا هو تعليم.. والإصلاح الزراعى هبط بالزراعة حتى جاء اليوم الذى أصبح فيه القمح يأتينا تبرعاً من أخوة لنا فى السعودية خضروا الصحارى وزرعوها دون اشتراكية أو شعارات.. وأخيراً انتهى عبدالناصر وانتهت سياسته إلى الهزيمة والخراب الاقتصادى وجميع أفكاره أخذت حظها من الامتحان وسقطت.
فماذا يحاول الناصريون الإيحاء به وما التقدمية والعلمانية التى يكلموننا عنها كل يوم.. إن مدلول الكلمة الحرفى والصريح هو نظام لا يؤمن إلا بهذا العالم ولا يعمل إلا من أجله ويرى فى حكاية الآخرة والله والحساب والعقاب أنها غيبيات، وسائل غير مطروحة لا تخص سوى أصحابها ولا تتخطى باب المسجد أما فى الشارع وفى المجتمع فلا حكم إلا للقانون الوضعى الذى ارتضاه البرلمان فإذا وافق البرلمان بأغلبية على إباحة الزنى والشذوذ والخمر والقمار والربا فإنها تصبح مشروعة وتكتسب قوة القانون وإن خالفت الأديان وصادمت الشرائع.
هذه هى علمانية أحمد بهاء الدين والأمثلة الموجودة والحاضرة لهذه العلمانية فى البلاد الإسلامية والعربية هى لبنان واليمن الجنوبى وبنجلاديش ونظام أتاتورك وجميعها أمثلة متفاوتة للأزمات الاقتصادية والديون والتخلف والتبعية وفقدان الهوية بل إن الكعبة التى يتجه إليها العلمانيون ويتلقون عنها وحيهم وإلهامهم نرى فيها العمال الكادحين يقفون فى طوابير ليشتروا الكرنب بالبطاقة بينما أعضاء الحزب الشيوعى يأكلون الكافيار ويركبون عربات فاخرة ونقرأ عن برجنيف أنه كان يمتلك جراجاً به أكثر من عشرين عربة فاخرة من أغلى وأفخر أنواع المرسيدس والليموزين وذلك ما يقوله دفتر أحوال هؤلاء العلمانيين برواياتهم وتوقيعهم وبدون تشنيع ومن أجل هذا سقط اليسار فى العالم كله وتراجع جورباتشوف عن أفكار لينين وستالين وبرجنيف وضرب بها عرض الحائط،
كما تراجعت الصين، كما انتكست الأحزاب الشيوعية الأوروبية على رؤوسها ولم يبق من دراويش الماركسية إلا اليسار المصرى يرفع رايات عتيقة بالية انتهت موضتها ويحلم بأمجاد ويقول لنا الزميل أحمد بهاء الدين موتوا بغيظكم وما مات بغيظه إلا صاحبه بل لقد مات بحسرته بهزيمة منكرة وإحباط لم يشهده زعيم قبله والزملاء الرفاق الذين يلبسون قميص عبدالناصر ينسون أن القميص أدركه البلى، وأنه دخل فى تركة ماض انتهى وأصبح مخلفات وأن العصر بمشكلاته ومتغيراته تجاوز عبدالناصر وفكر عبدالناصر وأن المشاكل التى استجدت تحتاج فكراً جديداً وأن نقود أهل الكهف التى يدورون بها فى الأسواق لن تشترى لهم شيئاً افتحوا النوافذ يا رفاق واستنشقوا الهواء نحن على أبواب التسعينيات.
المقالة الثانية
وقد حملت عنوان «الخروج من مستنقع الاشتراكية» والتى قال فيها..
مات الفكر الماركسى بالسكتة فى ساعة دون أن نطلق رصاصة تحية لجيته بمجرد أن الشعوب سمح لها بالكلام ولم تكن البورجوازية هى التى لعنت ماركس هذه المرة بل العمال والفلاحون والبروليتاريا والكادحون فى المناجم والطبقات المطحونة التى زعمت الماركسية أنها جاءت لنجدتها ظهرت الحقيقة وبرح الخفاء، ولم يعد هناك ما يدعو لأن نستمر فى الكذب وفى التستر على الأخطاء فلم تكن الاشتراكية العلمية إلى المحض الخبيث الذى خرجت منه هذه السلالة من السفاحين من لينين إلى ستالين إلى بريل إلى عملاء قتلة أمثال «هوبيكر وجيفكوف وميلوش ياكشى وتشاوتشيسكو» حولوا أوروبا الشرقية إلى زنزانة وسجن وساحة إرهاب وميدان للرعب تقطع فيه الألسن وتقصف الأقلام ولم تكن الاشتراكية العلمية اشتراكية
ولم تكن علمية وإنما كانت تلفيقاً فلسفياً ومكراً يهودياً صنعه ماركس وجر به العالم إلى حمامات دم وإلى صراعات رهيبة بين يمين ويسار استنزفت طاقات الشباب وضيعت أمماً ودمرت اقتصاديات وألقت بشعوب فى شباك عنكبوتية من الأكاذيب وظلت الأكاذيب تتناسب وتتوالد تحت حراسة حديدية من قوة السلاح وفى رعاية قبضة فولاذية من القوة المطلقة لا تتراخى حتى أذن الليل ورفع جورباتشوف قبضته وسمح بالكلام والمكاشفة والمصارحة فإذا به يفاجأ بشعوب تنتفض من سبات لتلعن الملة الاشتراكية ولتثور على سدنتها ولترفض أحزابها وزعماءها ولتطرد سفاحيها،
وإذا به يفاجأ بزعماء الأمس يفرون كالجرذان المذعورة من وجه شعوب تطاردها بالمظاهرات والهتافات واللعنات ومن عاد منهم وكابر أعدمه شعبه رمياً بالرصاص،
وقد آن الوقت لمثقفين عرب كرسوا أنفسهم لخدمة هذا الفكر الفاسد أن يراجعوا أنفسهم وهم يرون أمامهم التاريخ فى أوروبا يصنع من جديد على نهج مضاد لما كانوا يرجون من آراء وتنبؤات خابت جميعها وكذبها الواقع وفى بلادنا حان الوقت لنصلح ما أفسده الاقتصاد الشمولى فى هيكل إنتاجنا المتداعى، وما صنعه التأميم والقطاع العام والأداء الفاشل للشركات الخاسرة ما لا تفعله مجانية شاملة لعشرة ملايين طالب من الحضانة إلى الجامعة بدون ميزانية ولمجرد الفشر بأننا نعلّم الفقير والمعدم مجاناً ولا مجانية هناك ولا تعليم ولا تربية
وإنما إهدار واستنزاف بلا عائد سوى الخلل الذى أدى إلى هجرة الفلاحين، من الريف إلى المدينة حيث المدارس والجامعات ليصبحوا جميعاً وزراء وبكوات ومهندسين وأطباء ومحامين، واختلت البنية الاجتماعية فلا يمكن أن نتصور جيشاً كله جنرالات وقادة بدون جنود وتوقفت الزراعة فى الريف ونزل الفلاحون لشراء الخبز والزبد والبيض والدجاج من المدينة ومدت المدينة يدها لتستورد القمح والدجاج والبيض من هولندا وأمريكا، وأنا وزير وأخويا أمير وابن عمى مدير يبقى مين حيسوق الحمير ومن يجمع الزبالة بالقاهرة والمحافظات..
أخطاء القرارات الاشتراكية التى أعلنت فى الستينيات ألقت البلاد فى مستنقع من التناقضات والصراعات والعقم الاقتصادى والتدهور الإنتاجى ولا أحد يواجه الكارثة،
والنتيجة هو منطق عام اسمه لا مساس لا مواجهة لا حسم ولا أدرى ما السبب أهو الخوف من عواقب المواجهة ولكن الخوف له فاتورة تتراكم هى الأخرى وقد عاش عبدالناصر فى الخوف من الجيش وفى الخوف من المخدرات فظل يؤجل المواجهة، الحاسمة من سنة إلى أخرى لا مساس بهذا ولا مساس بذلك وظلت فاتورة الخوف تتراكم حتى دفعها عبدالناصر مرة واحدة فى هزيمة ٦٧ ولم تجد بعد ذلك قرارات محاكمة صلاح نصر ولا اعتقال عبدالحكيم عامر، لأن أوان الحسم كان قد فات وحمل عبدالناصر وحده خزى الدهر واقترنت الهزيمة باسمه وبسياسته..
وكل ما تفعله أنها تؤجل المواجهة وتؤدى إلى عواقب تراكمية يرتفع فيها المد وراء السد حتى يحطم السيل ويقول صاحب المشكلة اتركها لمن يأتى بعدى يحلها، وأوفر على نفسى المصادمات ولكن من أدراه متى يأتى الطوفان..
ولا توجد روشتة شافية ولا وصفة منجية تخلص أى صاحب مسؤولية من مسؤوليته ولا يوجد إلا حل واحد هو الخروج من مستنقع الاشتراكية بمواجهة أخطائها وإصلاح ما أفسدته فى البنية الاجتماعية
ودول أوروبا الشرقية تفعل هذا، وعلينا نحن أيضاً أن نفعله، ظروفنا أحسن فلسنا فى المأزق التراجيدى الذى تمر به دول أوروبا الشرقية، لأننا قطعنا أكثر من نصف الطريق بقرارات العادات الجريئة ولم يبق إلا أن يعيش طريق اليسار فى خزى ووجهه بلون الأرض وهو لا يفتح فمه إلا بهراء وقد تغير اتجاه الريح وانتهى عصره وبدأ عصر جديد لابد أن يسود فيه فكر جديد ومنهج جديد فالآن وليس غداً..
ومن ليل العذاب تجمع ملايين اليابانيين على أنقاض هيروشيما ليضعوا اليد على اليد فى ميثاق عمل.. ميثاق عرق.. ميثاق سهر وقد فعلوها وصنعوا قنبلة اقتصادية.. فجروا ثورة إنتاجية.. قادوا مظاهرة علمية بهرت العالم.. ردوا على أمريكا بتحد أكبر وأخطر، هذه أمم مرشحة لقيادة التاريخ فى السنوات المقبلة، لقد رفع أجدادنا أهرامات بدون حديد وبدون مسلح وبقيت على الزمان خمسة آلاف عام ونحن نرفع عمارات من الأسمنت والخرسانة والمسلح لتقع منهارة بعد شهور من بنائها والفرق الوحيد هو هذا الشىء الذى نتحدث عنه، روح الجد عندهم..
وروح اللعب والعبث عندنا إن العمر قصير والإنسان لم يولد ليعيش عبثاً ويموت عبثاً، ويجب أن نعمل شيئاً فى حياتنا.. وهناك شىء فى الذوق العام وفى الفهم وفى الوعى وفى الإدراك يجب أن يتغير وعلينا أن نجدول أولوياتنا من جديد بحيث يكون العمل الجاد فى البند الأول واللعب فى البند الأخير.
وثيقة التكفير
حينما خطوت أول خطوة وأنا داخل المجلة لمحتها.. لمحت تلك النظرة المرتبكة المدفونة فى الأرض.. الكل (حارس الأمن.. الموظفون.. الزملاء) يحيوننى فى ارتباك.. وهم ينظرون فى الأرض.. فقد كانت سكرتيرة إحسان عبدالقدوس تنظر لى نظرة ممتقعة وهو بنفسه دافن نظراته بين أوراقه لا ينظر إلىّ مباشرة
■ الصدمة أصابت الكل.. أول حركة تكفير يسمع عنها الناس فى القرن العشرين.. هل تعلمون من هو أول من صدم.. الشيخ حسن مأمون.. صاحب الفتوى نفسه.. فالأزهر الشريف لم يكن هو أزهر اليوم.. كان إمام الوسطية العالمى عندما اعترضوا عليه وعلى أفكارى لم يذكروا اسمى فى نص الفتوى بل كل ما ذكروه عنى هو الأستاذ (م. م) وسمونى الدكتور المتعلم.. لأنهم لا يريدون تعبئة الناس ضدى.
مصطفى محمود
التشرذم.. المعاناة.. الاكتئاب.. الاعتقال.. النفى.. الحجب.. انتهاك جميع الحقوق كل هذه تعبيرات أطلقها المفكر الكبير مصطفى محمود على فترة حجبه عن الكتابة وحرمانه من الحرية والتحليق فى سماء بلاط صاحبة الجلالة.
. وقال.. أصعب ما يقابله الكاتب أن ينساه جمهوره.. لا يفرق معك المال أو الشهرة.. القهر كل القهر هو أن تجد نفسك قد اصبحت منسيا.. تصبح كالعارى.
كان مصطفى محمود لا يريد أن يطيل الكلام عن عهد الناصرية أو الناصريين بالمرة.. فقد ذكرنا عدة عشرات من المؤلفين والمؤلفات تناولت هذا العصر باستفاضة.. فمنهم من جعل من ناصر نبيا ومنهم من رماه بكل لعنات الأرض..
أما مصطفى محمود فيقول إن هذا لا يهمنى فى شىء فالأنظمة فى مصر غالبا ما تبدو قوية جدا من الخارج لكن الحقيقة أنها من الداخل كيان ضعيف جدا.. هى قوية على اهل مصر.. ولا أريد أن أقول إنها ضعيفة أمام العالم الخارجى.. لأن العالم الخارجى عموما لا يعرف بوجودنا.. ليس لا يعترف بنا بل لا يعرف.. وإن كان يعرف عنا شيئا فهى صورة البدوية التى تحمل جرة أعلى رأسها والبدوى الذى يرتزق من حملهم فوق النياق ليلهوا أمام الأهرامات يتصورنا بدوا مازلنا نعيش فى خيام ونرعى الأغنام ونعيش فى الصحراء.
هنا ينهى هذا العهد بنشر الوثيقة التى ادعى البعض أنها كفرت الدكتور مصطفى محمود.. نشروا اتهامات بالتكفير.. وقالوا إنها اقتطفت من نص فتوى الأزهر فى كتابه (الله والإنسان ).. الأمر الذى حشد وجيش اللاعنين فى حقه.. لم يذكر أحد الحقيقة.. ولم يعرفها أحد حتى الآن.. فتزييف الحدث «كان حريقة».
الصدمة أصابت الكل.. أول حركة تكفير يسمع عنها الناس فى القرن العشرين.. هل تعلمون من هو أول من صدم.. الشيخ حسن مأمون.. صاحب الفتوى نفسه.. فالأزهر الشريف لم يكن هو أزهر اليوم.. كان إمام الوسطية العالمى عندما اعترضوا علىّ وعلى أفكارى لم يذكروا اسمى فى نص الفتوى بل كل ما ذكروه عنى هو الاستاذ (م. م) وسمونى الدكتور المتعلم.. لأنهم لا يريدون تعبئة الناس ضدى.. ليست هذه وظيفة الدين أو الازهر أو لجنة الفتوى.
هناك سؤال سيفرض نفسه بعد قراءة هذه الوثيقة.. والتى كانت لجنة الفتوى بالأزهر أكثر رقة مما كنت اتصور فيها .. من وراء الهجوم الذى لاحقنى؟؟ وهذا السؤال سأنهى به هذا العهد تماما.. وفى هذه الوثيقة ستجدون رأى فتوى هيئة علماء الأزهر فى كتابى الأول الذى أثار الجدل والضجة والذى سبق أن ذكرت فى حلقات سابقة أننى تراجعت عنه بعد أن وصلت لليقين الإلهى.
( الآتى نص فتوى ورأى علماء الأزهر فى كتاب الله والإنسان حرفيا كما هى محفوظة داخل مجمع البحوث):
« سؤال: من الأستاذ: م.ح.أ بطلب قيد برقم ١٣٥٧ سنة ١٩٥٧ يرغب فيه منا أن نطلع على كتاب (الله والإنسان) ونبدى رأينا فيه.
أجاب: الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبى بعده . وبعد:
فقد اطلعنا على هذا الكتاب الذى ألفه الدكتور (م.م) وأخرجه فى مارس سنة ١٩٥٧ بعد أن نشر بعض فصوله فى مجلة روزاليوسف. ونظرا لأن هذا الكتاب قد أثار ضجة كبيرة.
وطلب منى الطالب بصفته ممثلا لمجمع البحوث العلمية، وجماعة البر والتقوى إبداء رأيى فيما نشر بمجلة روزاليوسف من الكتاب، وفى الكتاب نفسه بعد طبعه وتوزيعه على القراء.
وقد قرأت هذا الكتاب من أوله إلى آخره قراءة هادئة غير متأثر بما أثير حوله، لأننى لا أحب أن يصدر حكمى عليه فى جو عدائى له أو جو تسيطر عليه فكرة سيئة عنه.
ولذلك أجد من الإنصاف أن أقول
: إن الكاتب عنى فى كتابه بتمجيد العقل والعلم والحرية، وإظهار أثرها فى تقدم الفرد والأمة. ولا جدال فى أن الدين الإسلامى قد سبقه إلى ذلك فقد عرف للعقل قيمته وقدره. وطالب الناس بالتفكير فى خلق الله، وبالنظر والاعتبار، ونجد آيات القرآن الكريم حافلة بذلك.
كما أنه دعا إلى العلم بكل ما يحتاج اليه الإنسان فى حياته وفى مماته، وكل ما يرفع شأن البشرية، ويحقق على الوجه الأكمل معنى خلافة الإنسان عن الله فى أرضه، يعمرها ويستخرج كنوزها ويفيد من كل ما وضع الله فيها، وأيضا فإن الإيمان الذى فرضه الإسلام وسائر الأديان السماوية.
وهو الإيمان بأن للعالم إلها واحدا هو الله سبحانه وتعالى وهو المستحق وحده للعبادة والذى يستعان به ولا يستعان بغيره فى كل شؤون الحياة يحقق معنى حرية الإنسان فى أسمى صورها وأعلى مراتبها. فالمؤمن. إيمانا صادقا لا يكون عبدا لغيره، ولا عبدا لشهواته، ولا لأى شىء آخر سوى الله سبحانه وتعالى الذى خلقه وخلق كل شىء.
فدعوة الكتاب إلى تخليد العقل والعلم، وإلى أن يفكر الإنسان تفكيرا حرا مستقيما، دعوه لا ننكرها عليه، ولا ينكرها الدين الإسلامى. فما جاء فى آخر الكتاب من الدعوة إلى أن يتكاتف السياسى اليقظ والمفكر الحر ورجل الدين العصرى إلى أن يكونوا فى توثب دائم ليكسروا الدروع السميكة حول أعدائنا، ويمزقوا عن وجوههم القبيحة النقاب لاشىء فيه وهو مما نوافقه عليه.
غير أن الكتاب لم يخل من أخطاء لا نستطيع أن نمر عليها بدون إبداء رأينا وعلى الأديان كلها هجوم واضح نلمسه فى كتابه فى كثير من المواطن.
واعتقد أن هذا الكاتب وأمثاله لم يقعوا فيما وقعوا فيه من خطأ إلا لأنهم لم يكلفوا أنفسهم عناء دراسة الأحكام التى دعا الإسلام الناس إلى اتباعها بدليل أنى لم اجد فى كتابه شيئا منسوبا للدين يستحق أن ينتقد أو يزدرى وسنذكر بعض الأمثلة من خطاه الذى لا نقره عليه بل إننا نعتقد أنه لو راجع نفسه لا يقر هذا الخطأ.
ص ٢٤
(والطريقة العصرية فى بلوغ الفضيلة ليست الصلاة، وإنما هى الطعام الجيد والكساء الجيد، والمسكن الجيد. والمدرسة والملعب والموسيقى).
ص٢٦
( لقد صنعنا الصلاة على المذاهب الأربعة ولم يبق إلا أن نجرب الطعام الجيد)
وهذا من أمثلة الخطأ.. فهو خطأ فاضح فليس من الإنصاف أن يقول كاتب: إننا صنعنا الصلاة، فالصلاة لم يصنعها الإنسان، وانما أمر بها الله ولا أدرى ما الذى دعاه إلى مثل هذا التهجم على أوامر الله إنكار فائدتها أولا، وبنسبة صدورها لا إلى الله بل إلى الناس ثانيا. ولو قال بدل هذه العبارة أننا امتثلنا إلى أوامر الله بالصلاة وذقنا أثرها وحلاوتها فى صدورنا فلنضف إليها أيضا ما تحتاج إليه أجسامنا ومقومات حياتنا لنكون أقوياء بإيماننا وبأجسامنا وأرواحنا حتى نستطيع أن نواجه عدونا بهذه الأسلحة مجتمعة.
ص ٥٤
تهجم على الأديان
والأديان سبب من أسباب الخلط فى معنى السعادة لأنها هى التى قالت عن الزنى والخمر لذات وحرمتها فتحولت هذه المحرمات إلى أهداف يجرى وراءها البسطاء والسذج على أنها سعادة، وهى ليست بسعادة على الاطلاق .
ليحفظ للواقع: أن الدين وهو يحرم بعض ما يشتهيه الإنسان ويلذ له إنما يحرمه للضرر الذى يعود عليه من الجرى وراء ملذاته فقد حرم الخمر ليحفظ للناس عقولهم.. وحرم الزنى ليحملهم على الزواج والتناسل فيحفظ بذلك النوع الإنسانى على أكمل وجه ويقيه شر الانحلال والانقراض والانهيار.. هذه هى الحقيقة التى ما أظن أن الكاتب غفل عنها ولكنه مع هذا يخطئ فى التعبير فيقول: إن الأديان سبب من أسباب الخلط فى معنى السعادة وأن السعادة ليست تحررا بحيث يفعل الإنسان كل ما يريد وكل ما تشتهيه نفسه ولو كبه ذلك على وجهه وأوقعه فى الهلاك.
ص ١١١
الله فكرة، أنه فكرة فى تطور مستمر كما تدل على ذلك قصة تطور الأديان.. وفى فقرة أخرى يقول (وشريعة هذا الدين- أى الذى يدعو إليه- بسيطة جميلة وهى الولاء للحياة).
يقول المفتى.. الكاتب هنا يطعن فى الذات الإلهية فيتحدث حديثا ما كان واجبا أن يتحدث بمثله.. ويضيف.. لا أيها الكاتب المتعلم تعليما جامعيا ليس الله فكرة كما تقول، وإنما سبحانه وتعالى ذات منزهة عن صفات الحوادث ومتصفة بجميع صفات الكمال، وهو الذى خلقك وخلق كل ما تراه حولك فليس الله فكرة متطورة كما تقول وليست الأديان قصة كباقى القصص التى لا أصل لها وانما الأديان السماوية حقيقة أيدها الله سبحانه وتعالى بالمعجزات، التى أجراها على أيدى رسله.
ص١٨
أنا فتحت عينيى فى يوم لأجد نفسى وحيدا وإلى جوارى مصحف وحجاب لمنع الفقر.
ويقول المفتى عن القرآن الكريم.. إن هذه المعجزة معجزة خالدة باقية.. عجز العرب وغيرهم أن يأتوا بمثلها.. وهى القرآن الكريم.. فالمصحف الذى وجدته ولا يمكن لمثلك أن يكون بعيدا عنه هو المعجزة التى يكفيك أن تقرأه وتمعن النظر فيه لتعرف الأسس التى تضمنها، والتى لو عمل بها الفرد وعملت بها الأمة لتحقق الفرد الصالح والأمة الصالحة، ولما صار الشرق كما نراه الآن بعيوبه وبضعفه، فإن الإسلام لا يعرف الضعف والضعفاء ولا يعرف السعادة التى يحققها حجاب أو دعاء.. كما تريد أن تلمز به الإسلام بحملك الحجاب مع المصحف، فلا يوجد فى الشريعة الإسلاميه حجاب يمنع الفقر أو يجلب السعادة وإنما يوجد عمل دائب مستمر لتحقيق معنى السعادة الحقيقية..
السعادة المؤسسة على قوة المادة وقوة الروح معا، ولعلك لو تحدثت عن الشرق وقد استحال أمره إلى أن يكون له جيوش ومصانع وطيارات، وغير ذلك مما يوجد فى الغرب، الذى لا يحول الإسلام بينه وبين أن يبلغه لما كان حديثك عن الإسلام هذا الحديث المتأثر بحالة الشرق الآن تأثرا دعا إلى أن تمجد المادة التى وصل إليها الغربيون التى لم يصل إليها الشرق بعد لا لأن الدين قد حال بينه وبين بلوغه، ولكن الاستعمار الذى رزخ على صدر الشرق والشرقيين فى القرون الأخيرة هو السبب الأكبر فى ذلك».
ص ١١٩
فلا محل لافتراض فى بقاء آخر روحانى لهذا الترابط المادى البحثى.. إنها نهاية طبيعية إذن.. أن يبعث الإنسان حيا بعد الموت هو والدودة التى فى بطنه والقملة التى فى رأسه فهذه تعنى روحية الأديان.
وفى فقرة أخرى «أن دعوى الخلود الشخصى لا يسندها العلم ولم تعد تسندها الضرورات الاجتماعية القديمة».
كانت هذه الدعوى العريضة التى يدعيها الكاتب فى كتابه ويقول عنها دعوى الخلود الشخصى لا يسندها العلم.. لم يقل لنا اسم العلم الذى ينكر الحياة الآخرة اللهم أن يكون قولا لبعض العلماء المتطرفين، الذين مجدهم الكاتب فى أثناء كتاباته أما العلماء الذين بحثوا فى أصل الإنسان، وعرفوا عظمة الله وقدرته فيما كشفوه عن بعض آثارها فى الأرض والسماء، فما أظن أنهم ينكرون الحياة الثانية أو ينكرون وجود الله وقدرته وعظمته.
ص١٣١
إن الله ليس فوق الجدل.. وليس فوق العقل.. وليس فوق الواقع.. إن الله هو العقل وهو الواقع، وهو مجموع القوى الكونية التى تعمل خيرنا فى كل وقت، وهو قوى تقبل المراجعة والتفكير والبحث والتطوير.
هنا إنكار الله بتعبيرات ضعيفة لا يسندها منطق ولا دليل ولا شبة دليل ما الذى يريده الكاتب من هذه العبارات؟ هل يريد أن يوحى إلى قارئيه بأن الكون الذى يعيش فيه ويعيش فيه الناس خلق هكذا دون خالق؟ وهل العقل الذى يمجده ويقول إنه هو الله الذى أوجد هذه المخلوقات كلها، وإذا كان العقل هو الموحد كما يقول فلماذا وجد عند قوم وكان ضعيفا ومعدوما عند آخرين.
دعاء المفتى للكاتب
نسأل الله لهذا الكاتب وأمثاله الهداية والرجوع إلى الحق ـ فإن الرجوع إلى الحق فضيلة.. والله أعلم»
والآن بعد أن خرجت هذه الوثيقة لأول مرة أحب أن أنوه إلى أننى لم ألق عليها أى نظرة.. منذ أن خرجت حتى قريبا.. لدرجة أننى توقعت صدق ما قيل
.. لم أمسكها بيدى أو أعرف محتواها إلا عندما كلمنى الشيخ جاد الحق على جاد الحق.. وأعطانى نسخة منها.
■ هل تعلمون ما الشىء الكريم فى هذه الفتوى؟.. وفى صاحبها؟
- حسن مأمون «١٨٩٤ إلى ١٩٧٣» الذى كان أبوه إمام مسجد الفتح بقصر عابدين، وكان حسن مأمون ملما بالثقافتين العربية بالإضافة إلى الفرنسية وكان إمام أو رئيس «دار الإفتاء منذ ١٩٥٥ إلى ١٩٦٤، ويذكر أنه خلف الشيخ شلتوت فى مشيخة الأزهر.
■ هل تعلمون ماهو العجيب؟
- إن المفتى ذكر ما يتفق فيه معى قبل ذكر الاختلافات.. إضافة إلى أن الفتوى لم تذكر أى اتهامات بالتكفير أو التفسيق أو التبديع أو عنف لفظى ضد الكاتب رغم «ظهور افتراءات زعم نقلها من نص الفتوى، التى ذكرت بالكامل ورقمها هو ١١١٦ وبعنوان رأى الإفتاء فى كتاب الله والإنسان.
لم تنشر الفتوى وقتها أبدا لعدم التشهير حتى إنهم ذكروا اسمى بالدكتور مصطفى بحرفين «م.م»
وهنا نلاحظ ما يحدث الآن من مهاجمة بعض المؤلفين المغمورين فيجعلون منهم نجوم مجتمع، ويقبل الناس على شراء كتاباتهم التافهة.
لم تذكر الفتوى أى دعوى بمصادرة الكتاب، ولم تطلب ذلك بل اكتفت بمناقشتى وأفكارى والسؤال النهائى الذى يلقى بنفسه إذا كان موقف الأزهر ودار الإفتاء يظهر واضحا من خلال هذه الوثيقة.. فمن وراء كل دعوات التكفير التى هاجمتنى.. ودعاوى الزندقة التى هاجمتنى طوال عقد من الزمان؟
نساء فى حياتى
■ أحيط قلبى بغلاف من الزجاج وعزلة عن كل المشاعر.. وفى وسط زحمة آلاف المعجبات.. ومئات اللاتى يتصلن بى.. وعشرات الفنانات اللاتى أقابلهن يوميا ظل ذلك الحاجز قابعاً على قلبى لا ينقشع.. ولم تستطع إحداهن اختراقه.. وكل صباح كان يهتف: ألم يحن الوقت؟.. ألن أقابلها؟
■ أريد زوجة هادئة شقية.. أحترمها وتحن علىّ.. أضمها وتحتوى جنونى.. تمد يدها لتزيل غلاف الحزن الرابض على صدرى.. ألن أقابل مَنْ تعتصر قلبى بمشاعرها.. ألم يحن الوقت بعد؟!
مصطفى محمود
عاش مصطفى محمود مثلما مات تماما.. وحيدا.. ووحدته المقصودة هنا لا تعنى أنه عاش وحيدا، لأن الجميع كانوا يحيطون به.. تشكيلة الصفات التى تمتع بها (مثل هدوئه وعصبيته، رقته وقوته، حنانه وجموده، طيبته وقسوته) عند الحاجة إليها وهبته كاريزما غير تقليدية.. كان دائما ما يجد نفسه محاطا بالجميع.. لكنه مع ذلك وحيد.. وحدته فى تفرد نفسه ومشاعره وبالتالى لم يجد من يتعمق داخله ويفهمه ويروض تلك المشاعر.. فعن الحب يقول مصطفى محمود:
«الحب بالنسبة لى هو الحياة.. الماء.. الهواء.. التنفس لا أستطيع أن أعيش بدون حب ولا يستطيع أى إنسان أن يتجرد منه.. إنى أكاد أجزم بأن حبى الآن مختلف عن حب الآخرين».
الفنانات والمطربات.. كبار الكاتبات.. كل النجمات فى مصر جلسن بين يدى مصطفى محمود.. حتى بنات العائلات، فهو كان أول من أطلق باب اعترافات عشاق، واعترفوا له فى مصر والوطن العربى فكن يفضفضن.. ويستمعن إلى خلاصة كلامه.. سعاد حسنى.. شادية.. مديحة كامل.. ليلى طاهر.. نادية لطفى.. وكلامه عن هؤلاء يحين دوره فيما بعد.. خصوصا أن آلاف النساء والفتيات.. و.. و.. كن موجودات أمامه، والجميع يخفقن لرؤية مصطفى محمود.
لم يكن فى وسامة عمر الشريف.. ولا فحولة رشدى أباظة ولا فى حنان وشجن حليم، ولكن مع ذلك - والكلام على لسان صديقه الأول الفنان عبدالوهاب - «كانت الفتيات عندما يجدن مصطفى محمود يركب بجوار عبدالوهاب فى مقعد سيارة أى منهما الخلفى، كن يفتحن الباب فى إشارات المرور ويرتمين على الدكتور حاضنات إياه ومقبلاته.. ولم يكن يخلصه منهن إلا سائق محمد عبدالوهاب.. ولكنه على الرغم من ذلك.. وفى وسط كل هؤلاء كان بداخله يهتف: ألم يحن الوقت بعد؟.. ألن أقابلها؟.. ألن أقابل من تعتصر قلبى بمشاعرها؟.. أريد فتاة رقيقة هادئة شقية تصفق الأبواب بقدمها تشعل ما بداخلى..».
النساء فى حياة مصطفى محمود قليلات.. والمقصود بهن هنا النساء اللاتى دخلن إلى أعماقه.. ويتلخصن فى أمه، وأخته زكية.. وزوجته الأولى سامية، أم اولاده، وابنته أمل، وأخيرا زوجته الأخيره زينب.. وبعد طلاقه وانفصاله عنها ليزهد النساء.. وربما الحياة عموما.
وعن أولى هذه النساء.. قال
: أخبرتكم من قبل أن أمى هى الزوجة الثالثه لأبى.. وهو كان الزوج الثالث لأمى.. لا أريد أن أقول كلاما تقليديا عن كونها أعظم أم فى العالم أو أطيب أم فى الخليقة لأننى لا أحب الكلام بهذه الطريقة الكلاسيكية.. لكن بالفعل أمى كانت أعظم أم فى العالم.. يكفى أننى كلما تذكرت صفة واحدة من صفاتها أبكى.. عندما ماتت وخرج السر الإلهى كنت أقف بجوارها أبكى بشدة وأقول لها «كلمينى ولو كلمة واحدة فقط، قولى إنك راضية عنى، واغفرى لى شقاوتى وتمردى اللذين تسببا فى إرهاقك طوال هذه السنوات».
. هل تعلمون ما أعلم؟..
الحمد لله أنى ملم بكل خواص الأمومة وصفات كل الأمهات فى جميع الأجناس.. عند جميع الحيوانات.. عند كل فصائل الطيور.. والأسماك.. بالطبع أنتم لا تحتاجون أن أضيف أن سبب اهتمامى بصفات الأمومة عند كل هذه الكائنات كان منبعه الأثر الذى تركته أمى بداخلى.. تركت بداخلى شيئا مثل قلب آخر فكأنى أعيش بقلبين.
. قلبى العادى وقلبى الآخر الذى ينبض كلما لمحت لمحة أمومة عند كائن حى ليذكرنى بست الكل وتاج رأسى المرحومة أمى..
وللأسف أنى لا أمتلك صورا لها كنت أعطيتها لكما، لكنى مازلت أحتفظ بصورة لوالدى سوف أعطيها لكما.. إذاً تستطيعان أن تقولا إنى قد أغرقت المشاهدين الذين تابعوا معى برنامجى (العلم والإيمان).. بكل حلقات الأمومة عند الحيوانات والطيور، وكان السبب فى ذلك هو أننى كنت أبحث عن الأثر الذى تركته أمى بداخلى.. أحيانا لا أتذكر كل التفاصيل عنها وأحيانا لا أتذكر كل المواقف لها،
لكن لو تذكرت لن أنسى ذلك المشهد وأنا عائد ذات يوم من القاهرة بينما كنت كبيرا بالغا أستطيع فيه السفر إلى أى مكان، ونظرت من نافذة القطار وأنا مقترب من محطة طنطا حيث نعيش فوجدتها تقف مستترة فى زاوية أحد المنازل القريبة من المحطة بعباءتها وغطاء الرأس الخاص بها وتنتظر فى قلق..
وعندما نزلت من القطار ذهبت إليها فلم أجدها.. وعدت إلى المنزل سريعا فوجدتها تمارس أمور معيشتها بملابس البيت، عادى جدا وكأنها لم تكن موجودة.. لم أحدثها فى الأمر، وسرعان ما غادرت إلى القاهرة لأننى كنت فى تلك الفترة التى سبق أن أخبرتكما - أنى كنت أبحث عن نفسى فيها.. كنت أتعمق فى الموسيقى وأذهب إلى الحفلات لأعزف بها مجانا حتى لو وراء راقصة.. ثم أحسست بضآلة الأمر وأن هذا ليس مقصدى فبدأت التفكير جديا فى دراسة الطب.. والتركيز فيه وبدأت أحول مرحلة الكتابة من مجرد أفكار إلى التنفيذ ومن ثم ترددت على المجلات والصحف الشهيرة فى هذه الأيام.. وفى كل مرة من المرات التى كنت أغادر فيها إلى القاهرة كنت أجد أمى تقف نفس الوقفة.. وبنفس الطريقة.. لا يطمئن قلبها أو يهدأ بالها إلا بعد أن تتأكد من عودتى.
كنت أستمد منها الإكسير الذى أعيش به رغم أنى كنت أشقى مخلوقات الله.. بالمناسبة الشقاوة فى الأطفال ليست عيبا، فهى إذا وجدت من يوجهها ويروضها تحولت إلى طاقة بناءة ومنتجة..
كنت مصدر تعب وإرهاق دائما وأبدا.. فى كل مرحلة وفى كل خطوة أتخذها هى من تتعب معى، مثل اليوم الذى أحضرت فيه الجثة تحت سريرى لأمارس عليها التشريح، ولأننى حافظ ردود أفعال أمى خبّأتها تحت السرير ولم أعمل حساب اليوم الذى اكتشفتها فيه.. ولكنكما مؤكد ممكن أن تستنتجا.
وأضاف
: «أهم اللحظات التى بكينا فيها معاً فى اليوم الذى خرجت فيه قاصدا القاهرة بدون نية العودة.. كنت أريد لطموحى أن يتحقق حتى لو على حساب دراستى.. المبدأ جاد لكن الأسلوب الذى اتبعته فى الحضور إلى القاهرة قاصدا المجلات والصحف.. لأبدأ فيها مرحلة الكتابة والتأليف ومررت بأيام صعبة ولكنى تعلمت منها خصوصا أننى لم أجبر على فعل ذلك ولم تضطرنى ظروف ما.. وعندما عدت بعد فشل هذه التجربة - لكنى بالطبع تعلمت منها فيما بعد - أحسست بأنى أخطأت كثيرا فى حقها علىّ وفى حضنها بكينا معا».
لم يُرد مصطفى محمود أن يسرد الجزء الخاص بوفاتها، وقد حاولنا احترام هذه الرغبة فى البداية.. ولكننا عدنا فألححنا فقال:كل ما أتذكره أنى دفنت جثمانها الملفوف فى الأبيض داخل قبرها بيدى.. والناس يغلقون المقبرة وأنا لا أريد أن أغادرها حتى كدت أن أدفن معها.. وأنا لا أكاد أرى سوى ذلك الأبيض الذى يختفى شيئاً فشيئاً مقروناً بأصوات صراخ وصوت مقرئ.. وأياد تربت علىّ.. وآخرون يعانقوننى وفراغ بداخلى لم يملأ ولن يملأ!!!!
وعن السيدة الثانية فى قائمة من احتللن قلب مصطفى محمود، وهى الحاجة زكية أخته الكبيرة من الأب - لمصطفى محمود تسعة إخوة من الأب لا يوجد بينهم غير مختار الشقيق - يقول: أختى زكية حاولت جاهدة أن تكمل دور الأم الذى افتقدته فى فترة مهمة للغاية.. فترة البناء، الفترة التى حوربت فيها كما سبق أن ذكرت.. وسأسأل سؤالاً:
من من البشر ممكن أن يتحمل الظروف التى ذكرتها إبان نوبة المهاجمة والتكفير وحدى؟ بلا زوجة أو أم؟ وهذه كانت مرحلة أختى بلا منافس..
هل تعرفون الأخت الكبيرة الطيبة التى تبكى بشدة لو سمعت أن قدمك اصطدمت بحجر فى الشارع.. والتى تقف خلفك فى ظهرك وقت شدتك بدون انتظار أى نتيجة منك، هى تفعل ما تراه صواباً.. لا تنتظر منك أن تكون وزيرا أو رئيسا للجمهورية.. هى لا تفرق معها.. نعم ستضحك بعض الوقت ولكنها لا تنتظر مقابلاً ما، فكل ما يهمها أن تجد الابتسامة مرسومة على وجهى..
وأهم من ذلك كله أنها أنقذتنى.. نعم فقد جاءت إلىّ بعد التشهير بى مباشرة وأخذتنى فى حِجْرها.. وغطتنى بطرحتها البيضاء كما تعودت وأنا صغير.. وحمتنى من الصحفيين ومراسلى الراديو والمجلات - لم يكن وقتها هناك وسائل إعلام كما فى الوقت الراهن ولا فضائيات - وبعد شهرين أو أكثر أنهضتنى على قدمى ونظرت فى عينىّ فوجدت أنى ما زلت أمتلك إصراراً على أن أتحدى من وضعنى فى هذا الموقف.. فأجلستنى أمامها وهى تبحث عن مدخل الكلام..
كنت أنظر إليها وأنا أفهمها وأعرف ما تريد أن تقوله لى.. عندما تعدل طرحتها البيضاء عند الكلام ويداها تعبثان بأكواب الشاى وتبدأ الكلام بأبى، فإنى أعرف أن الكلام لن يعجبنى لذا قصرت عليها الطريق وسألتها: إيه الموضوع يا أختى؟
فقالت كلاما كثيرا عن كونى أمل الأسرة جميعا.. وقالت إن نشأتى المختلفة وأحداث الصغر غير العادية جعلت إخوتى جميعا يدركون ما سيكون عليه مستقبلى بإذن الله..
فهل واجبك الأول هو تحقيق آمال أهلك فيك.. أم العبث وراء المجلات والصحف.. كنا نفرح وأنت صغير أثناء قراءتك قصص الأنبياء وغيرها قبل من هم فى مثل عمرك.. كنا نفرح وأنت تجتهد ونزغرد والمدرسون يصفونك لنا بالعبقرى.. لكننا لا نريد منك أن تكون عبقرياً وميتاً نريدك فى وسطنا حتى لو بنصف ما أنت عليه الآن.. يا مصطفى يا عمرى ده مش كلام قصص أو مجلات.
وسكتُّ أمام ناظريها وابتلعت لسانى ولم أقو على الحديث بحرف واحد.. أختى الأمية هذه زرعت بداخلى ناقوس الخطر، وشغلت الإنذار..
أنا عندى أفكار جديدة على الوطن العربى.. لم يقتحمها أحد أبداً.. مثل الخيال العلمى.. أدب وسينما الخيال العلمى غير موجودة فى المنطقة العربية وتحتاج من يغامر بالدخول فيها وأنا مستعد لها من فترة وعندى مجموعة مخطوطات ومشاريع عن قصص وأفلام خيال علمى، ولو أضعت عمرى أحارب وأرد على من هاجمونى لن يكفينى العمر كله وبالتالى سأعطل مشاريعى الجديدة هذه.. وبالفعل نفضت دور الضحية الذى تخللنى فى الفترة السابقة وأنهى كثرة الشكوى والكلام.. وارتديت ملابسى على عجالة وأخذت قصصى وخرجت.
أما السيدة الثالثة.. التى احتلت قلب مصطفى محمود فى نصف عمره الأخير.. فهى أمل مصطفى محمود.. ابنته.. التى أصبحت أمه فى أعوامه الأخيرة.. فالدكتور اهتز عند فقدان كل من أمه وأخته الكبرى وظل يبحث عنهما، وعلى الرغم من زواجه مرتين إلا أنه لم يجد ما وجده عند أمل.. ويقول هنا: لا يعرف شعور فقد الأم غير من فقد أمه.. مهما كنت كبيرا، عندما تموت أمك تعود طفلا رضيعا وتشتاق لمن يحملك ويحن عليك.. حتى لو كنت محاطا بنساء الأرض..
وأنا عوضنى الخالق بأمل طوال الثلاثين عاما الماضية وهى تشعر بى حتى لو لم تكن بجانبى أجدها تفتح الباب فى اللحظة المناسبة وتسألنى ماذا أريد.. لا تستفسر عن كونى ينقصنى شىء أم لا، كانت تسألنى عن الشىء مباشرة وأكون محتاجه فعلا.. منذ طفولتها وأنا أشتاق إليها عندما تذهب إلى المدرسة.. أو أثناء أسفارى المتعددة للخارج.. تكوّن بيننا رابط نادر ونشأت بيننا لغة الأيدى!!
أى أننا كنا نتحدث ويداها الصغيرتان بين يدىَّ وأنا مشغول أو وأنا راقد منهك وكنت أفهمها وتفهمنى - لاحظنا ذلك بالطبع فى ساعات الدكتور الأخيرة عندما أراد أن يخبرها ألا تبكى وتخلى الغرفة وبالفعل وجدنا بينهما تلك اللغة النادرة - أخذتها معى فى حواراتى وأنا صغير وعندما كنت أشعر بأنى مخطئ فى شىء ما كنت أجلسها أمامى وأعترف لها وأعتذر عما بدر منى وهى التى أهدتنى أول حفيد، وأحفادى هم أصدقائى لو أنكما لا تعلمان..
فأنا بالإضافة إلى سعيى المستمر فى الحصول على أحدث الأجهزة للجمعية وأحدث المواد العلمية للبرنامج أسعى دائما للحصول على أحدث الألعاب من العالم فأنا أكبر منافس لأحفادى ومن قبلهم أولادى فى اللعب.. أنا أذكرها بكل صراحة (أنا أكبر عاشق ومتابع لألعاب الأطفال فى العالم حتى الآن.. من السلم والتعبان وبنك الحظ حتى الأتارى والبلاى ستيشن ps ٣).
وعندما سألنا الدكتور مصطفى محمود عن أدهم ابنه قال:
نحن نتكلم الآن عن الجنس الناعم..؟ أدهم مشواره طويل معايا.. كفاية إنى مكتفه بمسؤولية الجمعية عشر سنين من غير مقابل وهو راضى بس عشان يرضينى.. وبعدين أقول لكم إيه ولا إيه عنه.. زمانه لسه زعلان منى وهو صغير.. لما كنت بطلع عينه لو صحانى مرة من نومى حتى لو غصب عنه.. عموما نخلى الكلام عن أدهم لما نتكلم عليه مع الرجال اللى أثروا علىّ فى حياتى مع أبويا مثلا!!!
كل الكلام السابق ولم نعرف أول عشق عاطفى للدكتور مصطفى محمود.. ذكر من قبل عديلة.. غرام الطفولة الحارق وصاحبة أول قبلة حقيقية - فى حياة فيلسوفنا الكبير تحت بير السلم - ولكننا لم نعرف غرامياته الأخرى، هو الذى قابل آلاف السيدات ومئات المعجبات وعشرات النجمات والفنانات وتزوج مرتين،
أين عشقه الأول؟ وأين غرامه الأخير؟
وأى فتيات العالم وجدها كما قال:
«كنت أريد زوجة هادئة.. شقية.. طيبة.. تعتنى بى.. أحبها تخلص لى.. أحترمها وتحترمنى.. أحن عليها وتحتوى جنونى وحزنى.. وكانت سامية.. ملكة جمال مصر.. التى لم أعرف أنها ملكة جمال مصر.. قبل أن أحبها.. لأنى أحببتها من التليفون».
زواجى من ملكة جمال مصر.
أريد لحظة انفعال، لحظة حب، لحظة دهشة، لحظة اكتشاف، لحظة معرفة.
■ أريد لحظة تجعل لحياتى معنى ، فحياتى من أجل أكل العيش لا معنى لها، لأنها مجرد استمرار للبقاء، علامات الحب وشواهده أشبه بالجلوس فى التكييف فى يوم شديد الحرارة، أشبه باستشعار الدفء فى يوم بارد.
■ الحب هو الألفة ورفع الكلفة، الحب هو أن تجد نفسك فى غير حاجة للكذب، أن تصمتا أنتما الاثنان فيحلو الصمت ويتكلم أحدكما فيحلو الإصغاء.
■ بمنتهى البساطة هذا هو الحب الذى أتمناه.
مصطفى محمود
هل أخبرتكم أن أقوى وأعظم حب فى حياتى كان لملكة جمال مصر؟
وهل أخبرتكم أننى عندما وقعت فى حبها، لم أكن أعرف أنها جميلة بالمرة
نعم، فأنا عرفت الحب، سمعت صوتها وأحببتها أول ما أحببتها عندما كنت أسمع صوتها فى التليفون، كان صوتها دليلى إلى قلبها، فأنتم تلاحظون أن الحيرة هى أكبر وصف ممكن أن يطلق على، دائما أحتار فى البحث عن شىء، عمرى كله كنت أبحث عن نفسى وفى أحيان كثيرة،
وبعد كل مرحلة من حياتى أسأل نفسى: هل وجدت ما أبحث عنه؟
هكذا كان الحب ومرحلته.. الزوجة بالنسبة لى لم تكن فقط أم الأولاد، كنت أريد نصفى الآخر الذى ينقصنى، كنت أرغب فى الاستقرار النفسى، قبل الجسدى، وأريده على مقاسى بالضبط، أنا أول من أطلق أبواب الفضفضة فى الصحف والمجلات، باب اعترافات عشاق، والبسطجى فى «روزاليوسف»، وباب اعترفوا لى فى مجلة «صباح الخير»،
ولا أنكر أن الكم الهائل من الاعترافات التى فرغتها المراهقات أمامى، كان بمثابة نقطة تحول فى فكرى وإلمامى بالمرأة،
لا أنكر أنه فى أحد الأيام، شدنى صوت إحدى الفتيات، «تلفنت» إلىَّ وأنا فى المجلة، تكلمنا عدة مرات، فى كل مرة تقول لى بعض الجوانب عن مشكلتها، لكنها لا تكملها قط، تتركنى وتنهى المكالمة قبل أن أفهم مشكلتها، كان من الممكن ألا أعيرها اهتمامى، ولكن نداء داخلياً دفعنى لمواصلة الرد عليها بل الاستمتاع بمكالمتها،
وجاء اليوم الذى طلبت فيه مقابلتى لتعرض مشكلتها وجها لوجه، ولاقى طلبها عندى راحة والتقينا، أول ما قابلتنى صافحتنى وأخذت يدها بين يدى، ولم أتركها أبداً حتى اليوم.
«سامية» زوجتى الأولى وأم أولادى ونصفى الثانى، الذى لازمنى الجزء الأكبر من عمرى، معها بدأت علاقة الارتباط الحقيقية الأولى فى حياتى، وتكونت على أثرها الأسرة التى خططت لها منذ زمن، واعترفت لى بأنها تحبنى منذ أعوام طويلة، كانت مبهورة بكل عالم يظهر اسمه على الساحة.. فقد كانت متأثرة بصديقة طفولتها سامية مصطفى مشرفة ابنة العالم الكبير الراحل مصطفى مشرفة.. لا أنسى هذه الأيام قط ما حييت..
فبعد أن قابلتها فى المجلة لمساعدتها فى حل مشكلتها عرفت أن مشكلتها العاطفية كانت أنا، ولم أشعر إلا بعد أن انتقلت لى عدوى الحب بسرعة رهيبة، وأحببتها، فكانت جميلة جدا، وذلك رشحها، فى ذلك التوقيت، للحصول على لقب ملكة جمال مصر، بل لقد حصلت حينها على ملكة جمال قلبى، تزوجتها بعد رحلة طويلة من الحياة غير المستقرة، والغريب أنه أثناء فترة الخطوبة حدث الشىء غير المتوقع، وغير المستقر أيضا، فوجئت بأعراض مرض لعين تطاردنى، وعلمت أنى مصاب بمرض غريب لم يعرف له تشخيص وهو نوع من الإسهال غير المعروفة أسبابه، احتار الأطباء فيه، ولم يستطيعوا تحديد نوعه، وتسبب ذلك المرض اللعين فى نقصان وزنى أكثر من خمسة عشر كيلو جراما، وأصبحت مثل الهيكل العظمى.
وغرق فى موجة من الضحك وهو يقول «يعنى جلد على عضم» وكان هذا يعد شيئاً سخيفاً، فأنا مازلت فى فترة الخطوبة، وكان لابد أن تشاهدنى خطيبتى فى منظر لائق جسمانياً وصحياً، ولكن ما حدث لى كان يدعو أى إنسانة أنوى الارتباط بها لأن ترفض، قائلة «لن أتزوج لكى أمارس عمل التمريض»،
وهذا لأن كل طبيب كنت أذهب إليه كان له تشخيص مغاير ومخالف للآخر تماما، فذلك يقول إنها «بلهارسيا قديمة» وآخر يشير إلى أنها مصران غليظ، وثالث يؤكد بعد حيرة وتفكير أنه مرض نادر لم يتعرف عليه إلى الآن، وعشت مرحلة من الإحساس بالخوف والرعب لأن تشخيص معظم الأطباء كان يدور حول مرض غريب، معناه أننى لن أعيش أكثر من شهور معدودة،
وهذا ما كان يؤكده هؤلاء الأطباء، وكان لابد من أن أجنب سامية مثل هذه النتيجة، وهى أن تصبح أرملة وهى فى عنفوان شبابها بعد أيام من الزواج، فقمت فى واحدة من خروجاتنا بإخبارها بالحقيقة وقلت لها إننى أعفيها من أى ارتباط، وسقطت بين ذراعى، وتحملت النتيجة الحتمية، أن أحملها حتى المنزل وظللت بجانبها.
وقهقه الدكتور مصطفى محمود مرة أخرى وهو يتذكر، وقال: «كانت أيام»، ولكن هذه الفترة من العمر بالتحديد كشفت لى عن معدن سامية الأصيل لأنها أصرت على أن يتم الزواج، رغم أننى مهدد بالموت، ورغم إصرارها صممت أنا على الانفصال وفسخ الخطوبة، فلا أستطيع أن أظلمها معى قبل أن أجد حلاً لمرضى، ولكنها إصرت على الوقوف بجانبى، ولم تتركنى، وذهبت إلى الطبيب الكبير، حين ذاك، الدكتور أنور المفتى (أستاذى أيام الجامعة، وطبيب عبدالناصر الخاص، والذى أصبح فيما بعد صديقى، وواحداً من المتابعين لكتاباتى ومن المعجبين بأسلوبى،
ودائما ما كان يناقشنى فيما أتناوله من القضايا والموضوعات المختلفة)،
فقال لابد من الكشف عليك، وبعدها قال لى سنجرى لك بعض التحليلات المختلفة للوقوف على نوعية المرض بالتحديد، وبعد خروج نتيجة التحاليل تنفست الصعداء وسجدت شكرا لله، حين عرفت أننى غير مصاب بأى مرض خطير أو غريب، ووجدت أن المرض اللعين رحل «بعد أن ترك لى بعض أحماله، وهى عادة الإسهال، التى لم تتركنى حتى الآن»
والذى توقعت أن يتسبب فى موتى،
ولكن، لكى أزداد اطمئناناً وأشفى تماما، طلبت منه ما أثار حفيظته وما جعله ينظر لى باستغراب وتعجب، حين طلبت منه أن يدخلنى جناح العمليات ويشق بطنى ويعرف بالضبط تفاصيل ما بداخلى من آلام وتقلصات أشعر بها فى أحيان كثيرة، ويرى بعينيه المجردة ماذا بها «فلم تكن المناظير ظهرت حتى ذلك الوقت»، واعتبر كلامى مزحة، لكن أمام إصرارى اضطر إلى الاستماع إلى مطلبى وفعلها، والحمد لله تأكدت من عدم إصابتى بأى داء، وأن التقلصات نتيجة أن معدتى حساسة ولا تتحمل نسمة الهواء،
وكان أفضل ما قاله الدكتور المفتى لى عندما ابتسم وهو يقول تأكل كل الممنوعات التى قال لك عنها الأطباء من قبل، وكنت ممنوعاً بأمر الأطباء من أكل كل شىء إلا السمك والموز، وكنت لا أتناول يوميا إلا قطعة من السمك وموزة واحدة، وظللت على ذلك عامين كاملين، والنصيحة الثانية التى أسداها إلى وأسعدتنى عندما قال: لابد أن تغير نظام حياتك فإذا كنت «عازب» تزوج،
والحقيقة أننى اقتنعت بوجهة نظره، فما دام كل شيء فىَّ سليماً، فما هى أسباب هذه الأمراض التى تنتابنى فلابد أن هناك خطأ ما فى حياتى، وأن نفسيتى بها شىء ما خطأ لابد من تغييره، وعلى الفور اتصلت بـ«سامية» لأخبرها بأنه فى أقرب وقت يجب أن نحدد ميعاد الزواج، وتحقق ما طلبت وسط أسرتها وإخوتى، وتزوجتها فى ١٩٦١، وعشت فى السنوات الأولى أسعد أيام حياتى، وكانت هذه الفترة اليسارية، وما صاحبها من حفلات، كانوا ينظمونها داخل السفارات وغيرها، وكانوا يشربون الويسكى والشمبانيا، وفى هذه النقطة أحب أن أرد على سؤال لكم عن الخمر والمحرمات فى حياتى..
فى هذا الموضوع سأرد برد واحد (جربت ولكن لم أستفد منها، فشربت معهم على سبيل التجربة، لأننى فى ذلك الوقت كنت فى مرحلة الشك، وتجربة كل الأشياء، ولكنى أحسست أنها ليس لها طعم بالمرة، وكانت تجعل جسمى ثقيلا جداً، وكانت سامية تنهانى، وتؤكد لى أنها غير مفيدة وتفسد علاقات الناس بالآخرين،
ولهذا فلم أحب الخمور، ولم أعرف لها طعما بعد ذلك)
، نعم كنت سأمتنع عنها ولأن بجوارى زوجة حنون كانت مصممة على الحفاظ علىَّ وعلى صحتى فقد انتهت هذه الفترة قبل أن تبدأ واستمر زواجى بـ«سامية» ما يقرب من عشر سنوات، وكان أكثر ما يؤرق حياتنا الزوجية طوال هذه السنوات أنها كانت غيورة جداً رغم أنها كانت تصغرنى بـ ١٥ عاما.. وقد تزايدت غيرتها تدريجيا ووصلت إلى مراحل صعبة جداً، كانت فى البداية تسألنى بعض الأسئلة وتعرف منى كل التفاصيل التى ترضيها..
وبعد مضى الوقت بدأت إجاباتى لا تشبع فضولها بالكامل فبدأت مراحل المراقبة والتليفونات، والبحث داخل الملابس عما لا يرضيها، وعلى فكرة، كل هذه التفاصيل عادية، ولكن غير العادى هو أن يصاحبها ظروف مثل التى ستقرؤها من تسجيل أخى الراحل (عبدالوهاب)، عندما كانت الفتيات تفتح باب السيارة فى إشارات المرور وترتمين علينا، أنت ككاتب وأديب ولك أفكارك التى يتابعها البعض ويتبعها البعض، من المؤكد أنك صعب أن تضرب كل من تقترب منك..
فكانت تحدث مشكلة كبيرة مع كل رقم جديد أضيفه إلى أجندة تليفوناتى، أو أى صورة فى مجلة تظهر فيها سيدة ما بجوارى، فهى معجبة، مجرد معجبة ليس إلا، ولكن طبعا بعد خناقات وبهدلة ومراقبات، تبدأ برقابة على التليفونات، وتفتح خطاباتى وتحولت حياتى إلى جحيم لا يطاق، فأنا كنت متهماً دائماً بأشياء لا أفعلها، وترتب على ذلك حكايات كبيرة ومشاكل أكبر، وكل هذا خلق جواً لا يساعد على الكتابة والإبداع، فكنت لكى أكتب لابد أن أسافر إلى أى مكان،
وأتذكر أن كل كتبى فى هذه الفترة كتبتها فى الفنادق والبلاد التى سافرت إليها، فقد سافرت أيامها إلى السودان واستغرقت فى رحلاتى إلى الصحراء الكبرى والغابات الاستوائية، وأتذكر أننى خلال رحلة إلى المغرب قرأ لى الكف عراف مغربى، وقال لى إنك متزوج من امرأة جميلة، ولكنها عصبية «عصبية حبتين»، فلم أكن أكتب فى مصر أو بالتحديد فى شقتنا فى الدقى، مطلقا، لأن حياتى تحولت إلى مشاكل لا تنتهى لأنها كانت توقظنى فى منتصف الليل، ويحدث بيننا شجار بلا أى سبب أو سابق إنذار، فأقول لها فيه إيه يا سامية،
ولماذا كل هذا الشجار اليومى، ويظهر أن كلام العراف المغربى صحيح، وأقص عليها ما قاله فتزداد ثورة، وتقول لى لقد شاهدت فى الحلم أنك كنت مع واحدة ست، فأقول لها «ما تحلمى ومن حق كل إنسان يحلم، هو لازم حلمك يبقى صحيح هو إنتى السيدة زينب ولا السيدة نفيسة»،
ثم ننهمر فى الضحك، وبخفة دم تهدأ الأمور، ولكنى وجدت أننى لا أستطيع أن أعيش باقى العمر بهذه الطريقة، وخلال هذه الفترة كانت الغيرة الزوجية على أشدها، ولكن ما عدا ذلك فهى إنسانة طيبة وست بيت، وهى أم الأولاد (أمل وأدهم) والذى كان ميلادهما فرحة غير عادية بالنسبة لى،
فأتذكر أيام عودة أمل من المدرسة فى سنواتها الأولى، وهى تقول لى هناك الكثير من أصدقائى البنات معجبون بك يا بابا، ويريدون الحضور معى لرؤيتك، وكذلك المدرسون والمدرسات، وكيف أصبحت بعد ذلك عروسة ناضجة تناقشنى فى أفكارى وتقرأ كتبى، وتمدحنى أحيانا وتنقدنى فى أحيان أخرى، وأدهم ابنى الوحيد كان دائما بجوارى، وكنت أصطحبه فى بعض رحلاتى إلى الخارج، أيام إعدادى لبرنامج العلم والإيمان، وكانت أسعد أيام حياتى حين تزوجا وأنجبا لى أحفادى «محمود وأحمد ومصطفى وممدوح»، والأخير كنت أداعبه وأطلق عليه «كلبوشى» وأصبحوا أغلى الأحباب إلى قلبى،
ولكن للأسف تحولت حياتنا إلى جحيم فلم أستطع أن أعيش حياتى معها، أكثر من هذا، خاصة وأنا أحتاج وبشكل دائم إلى الهدوء والاستقرار، لكى أنجز كتاباتى وأعمالى فطلقتها ١٩٧٣،
وتركت لها كل شىء وأتذكر أننى فى آخر يوم خرجت بـ«بجامتى» فقط، بعد خناقة كبيرة ولم أعد إلى شقتنا حتى الآن، وبعد ذلك كانت مرحلة صيام عن المرأة، ولكنى لا أنكر أننى كنت أحب أم الأولاد بجنون، وأحبتنى بجنون، ولكن جنون الحب كان السبب الرئيسى والأساسى فى إخفاقه، والقضاء عليه
، فقد كنا صغيرين والشباب فى بواكيره، ومن الطبيعى أن تكون العواطف فى هذة الفترة غير مستقرة وحدثت الغيرة وهى أولى مراحل الانهيار الأسرى، فكانت الغيرة القاتلة لهذا الحب الجنونى، والتى كانت دائما تجرنا إلى الخلاف والخناق كل مرة،
ورغم كل هذا لا أنكر أننا قضينا مع بعض سنوات لا تنسى، وهى من أجمل سنوات العمر، كنا نذهب فيها دائمًا، أثناء حصولى على إجازة من العمل، إلى المصايف وإلى الأقصر وأسوان، ولكن كانت النهاية المتوقعة لهذه الغيرة العمياء أن يذهب كل واحد منا فى طريق، رغم أننى كنت أحبها بجنون، ولأنه انقطع فجأة بثورة عنيفة جداً، قبل أن يكتمل، ومازالت لها معزة خاصة فى نفسى وقلبى حتى الآن، فقد عاش هذا الحب فى قلبى فترة طويلة جدا،
وذلك لأن العلاقة التى تربطنى بالمرأة ليست هى الشهوة، فالشهوة وحدها لا تكفى فى نظرى، ولم تكن الشهوة هى الرباط بينى وبين سامية، أو أى إنسانة عرفتها فى حياتى، فالحب شىء أساسى وضرورى، ولذلك كانت علاقاتى العاطفية قليلة، ولذلك أيضا كنت أقول لـ(نزار قبانى شاعر الحب والنساء)، كلما تقابلنا فى حفلة من الحفلات، سواء كانت فى بيت عبدالوهاب أو غيره من أصدقائنا «إنت الوحيد اللى عرفت الستات يا نمس».
وقضيت بعد انفصالنا مدة طويلة، زاهداً فيها الحياة بعدها، ثم تزوجت الثانية وهى الزيجة التى استمرت ٤ سنوات، وانفصلت عنها هى الأخرى، لأعتزل النساء جميعا. الجميل أنه بعد كل هذا تجد سامية وهى تعيش مع ابنتنا أمل، نعيش فى منزل واحد، لكنى أعتزل فى شقتى، هل تعلمون أنى بعد نوبات الغيبوبة التى تنتابنى من عام إلى آخر، أسقط فى غياهب النسيان، وأستيقظ لأجد سامية تتناوب مع أمل السهر على ومداواتى، حتى إطعامى وإعطائى الدواء، تعلمون، رغم كبر عمرى،
أننى لو عاد الزمن مره أخرى، سوف أفعل ما فعلته ثانيا سوف أحبها مرة أخرى، وأتزوجها مره أخرى، وأنجب منها أدهم وأمل مره أخرى.
.رحلاتى.. سوَّاح فى دنيا الله
.رحلاتى.. سوَّاح فى دنيا الله
مازلنا نفهم الشرف فى بلادنا الشرقية بمفهوم ضيق جداً فالشرف عندنا هو صيانة الأعضاء التناسلية ونحاول أن نحكم على الشعوب بنفس المستوى فباريس داعرة لأنها تتبادل القبلات فى الشوارع وإنجلترا انهارت لأن الرجال أطالوا شعورهم ولندن هى الشذوذ الجنسى ولكن الحقيقة أن الشرف أكبر من هذا فهو شرف الكلمة.. شرف العمل والمسؤولية
مصطفى محمود
الوصول إلى اليقين أخذ الكثير من العمر.. نصف عمره تائه والنصف الآخر يبحث عن الحقيقه.. هل انعزل داخل حجرة مغلقة وظل يفكر.. وفقط، مثلما فعل أسلافه فى التاريخ البعيد.. الإمام أبوحامد الغزالى مثلا، أو جان جاك روسو؟ بالتأكيد لا؛ فالحقيقة فى هذا العصر الحديث تحتاج إلى ما هو أكثر من التفكير المجرد.. تحتاج إلى التجربة.. والمشاهدة.
مصطفى محمود أكد أكثر من مرة أن المسيخ الدجال ظهر بالفعل متمثلاً فى الوحش المسمى بالعولمة والذى أكل الأخضر واليابس فى طريقه ولم يترك دولة إلا واحتلها اقتصاديا أو ضمها إلى أملاك الشيطان الكبير مخترع العولمة.. وكان يحدث نفسه دائما: فى مثل هذا العصر المخيف هل يصح أن أعرف ما أعرفه من صفحات الكتب فقط؟
تحدث المفكر الكبير مصطفى محمود، وهو ينظر إلى مجموعة من الصور التقطت له فى مشارق الأرض ومغاربها، وقال: لا أستطيع أن أجزم بأننى مازلت أتذكر كل شىء عنها رغم أنها حصلت على نصيب كبير من عمرى فاستغرقت أكثر من ٤٠ عاماً أتنقل بين بلاد الله بحثاً عن الجديد.. بعد أن تعرفت على ما كان متاحاً لى داخل مصر والوطن العربى، وفى هذه الرحلات كانت نقاط التحول فى فكرى وحياتى وهى التى سأرويها هنا.
البداية كانت عندما كانت الرحلة والسفر من أهم الأشياء فى حياتى منذ مولدى وحتى الآن.. أتذكر عندما كان أبى يقول لى ولأخوتى إن الناجح وصاحب الدرجات الأكثر فى المدرسة سيحظى برحلة إلى القناطر الخيرية.. كنت أعيش أيامى أحلم بالرحلة وأتخيل ما يمكن أن أراه فيها وما يمكن أن أحمله معى وأنا عائد منها، ولذلك كنت أصنع المراكب الورق وأتخيل أننى سأفرت على ظهرها للهند وكما تعودت منذ الصغر أنه لابد من تحقيق أحلامى مهما كانت صعبة ومهما طال الزمن..
حتى لو كان السير على الأقدام من جنوب أفريقيا إلى القاهره.. وهو الحلم الذى طالما راودنى منذ الطفولة وقد تحقق حين أصبحت صحفيا فى روزاليوسف، وعلمت أننى ضمن الوفد المسافر لحضور مؤتمر آسيوى أفريقى فى تنجانيقا- تنزانيا حالياً- عام ١٩٦٢ وعندما علمت بخبر اختيارى ضمن الوفد كدت أن أغيب عن الوعى من الفرحة.
لم تكن سعادتى بالسفر لأنى سأصبح نزيل فندق خمس نجوم أو سأتمتع بمجموعة من الفسح والتسوق ولكن كانت سعادتى لأننى أخيرا سأحقق جزءا كبيرا ومهما من رحلة البحث عن الإيمان واليقين من أكثر البقاع التى لم تدنسها بشرية أو حضارة زائفة أو عولمة من الغابات والصحراء والطبيعة..
وعلى الفور توجهت لاستخراج تأشيرات السفر وحدث أطرف موقف فى حياتى أظهر لى مدى سوء الحظ عندما قابلتنى الصعوبات فى استخراج تصاريح السفر وعرقلوا سفرى بطرق كثيرة.. واكتشفت أن السبب أن هناك ضابطاً عسكرياً يحمل نفس اسمى ممنوع من السفر بأمر السلطات وكان مثل هذا الأمر يحتاج أيام عبدالناصر إلى بحث وتحريات حتى يتوصلوا إلى أننى لست هذا الشخص الممنوع من السفر
وكم تمنيت كثيرا فى هذه الأيام أن أغير أحد الشيئين.. اسمى أو النظام.
وعندما حلت مشكلة التصاريح فوجئت بشح فى العملة الصعبة.. التى أحتاجها لمواجهة متطلبات الرحلة وإن أسعفتنى ذاكرتى فهو لم يكن مبلغاً من المال يزيد على عشرة جنيهات ورغم كل هذه الصعوبات إلا أننى استطعت أن أتغلب عليها وسافرت وغمرتنى السعادة لدرجة جعلتنى أنسى كل المتاعب التى صادفتها قبل السفر وما إن وضعت قدمى فى أفريقيا حتى انطلقت لأحقق ما أصبو إليه.. التنقيب عن أسرار أفريقيا..
فلم أطق الجلوس ولو دقيقة واحدة داخل الفندق وفى «تنجانيقا» صعدت جبل «كليمنجارو» ذلك الجبل الغريب الذى تتوافر فيه جميع فصول العام فحتى الثلوج تجدها فوق هذا الجبل وكلما صعدت تدريجيا تتغير أنواع النباتات التى تقابلك، فهذا الجبل فى حد ذاته يمثل متحفا من الطبيعة الرائعة، ولم أنس أننى يجب عند عودتى أن أكون محملا بكم من الصخور الطبيعة النادرة والأعشاب وهذا ما حدث بعد ذلك..
وكانت سعادتى كبيرة لأننى لم أصرف مليما من الجنيهات أثناء فترة انعقاد المؤتمر فقد تكفل المؤتمر بكل مصاريف الإقامة والمأكل والمشرب وما إن انتهى المؤتمر واستعد الجميع للعودة إلى مصر حتى فوجئوا بى أقول لهم «ترجعون إلى مصر بالسلامة».. وصرخ يوسف السباعى، الذى كان سكرتير المؤتمر الآسيوى الأفريقى، «ليه أنت مش راجع معانا ولا إيه».. فقلت له «لا راجع لكن مش بالطياره.. أنا هاروح مشى على رجلى»، واعتبرها مزاحاً وضحكاً، وضحك الجميع معه ولكنه تعجب عندما تأكد من أننى لا أمزح فقال «أنت اتجننت» ولكنى قلت له هذه فرصة العمر فلن أضيعها.
اتجهت إلى جنوب السودان وأتذكر أننى قوبلت بحفاوة وتقدير فى كل مكان أذهب إليه وقابلت عددا كبيرا جدا يقولون بأنهم من قرائى والمعجبين بكتاباتى فقد اتضح أن مجلة صباح الخير تصل إليهم وتلقى رواجا كبيرا بينهم ولهذا ظلت الجنيهات التى خرجت بها من مصر كما هى لم تنقص مليما وهذا لكرم القراء فى السودان الذين أقاموا لى ولائم ونحروا الذبائح احتفالا بوصولى.
ووصلت إلى «جوبا» فى جنوب السودان ومنها إلى الأحراش وهناك عشت ثلاثة أشهر من أفضل أيام حياتى بين أبناء قبيلة «نم نم» أو «نيام نيام» التى يعيش أهلها عراة تماما إلا من ورقة توت.. استضافنى زعيم القبيلة وكان يجيد الإنجليزية لتعامله مع الاستعمار الإنجليزى، والغريب بل الكارثة والفاجعة أنه كان متزوجا من خمسين سيدة يسكنون فى خيام متجاورة وعرض على أن أتزوج أربعا من بناته وعلى الفور أصابنى الرعب من هذا المأزق ولم أستطع الخروج منه.. ماذا سأقول لزوجتى سامية فى مصر «دى كانت تتجنن وتقتلنى»..
فضحك زعيم القبيلة عندما سمع منى هذا الكلام وأكد لى أن الرجل عندهم لا يعمل وغير ملزم بالإنفاق على المنزل أو الزوجة ولكن المرأة التى تقوم بالعمل والإنفاق عليه وكانت دهشتى بالغة حين رأيت بعينى الرجل فى هذه القبيلة يقتصر دوره على الجلوس تحت شجرة ليدخن ويأكل ويشرب بينما نساؤه يعملن لتوفير كل متطلباته ولم يكن غريباً ما سمعته وشاهدته بأن المرأة هى التى تطلب من زوجها أن يتزوج عليها لكى تجد من يساعدها فى العمل كما أن الجنس منتشر فى هذه القبيلة بشكل كبير فالمضاجعة دون زواج مباحة ولكن بشرط ألا تحمل الفتاة فإذا حملت تقدم هى وعشيقها أمام محكمة القبيلة وتكون الفضيحة والعار لها ولأبنائها من بعدها.
كما أننى شاهدت الحملات التبشيرية حيث يأتى المبشر المسيحى وهو مؤهل على المستوى الشخصى لجذب اهتمامات هذه الشعوب ففى الغالب يكون طبيبا بشريا وبيطريا وخبيرا فى الزراعة فيستطيع علاج البشر والحيوانات ويساعدهم فى الزراعة وكل ذلك من أجل أن يكسب ثقتهم ويصبح من السهل عليه جذب هؤلاء من القبائل البدائية إلى المسيحية وكانت هذه القبائل ترفض المسيحية وتقبل الإسلام لتعدد الزوجات، وذات مرة قالوا للمبشر كيف يمكن لداود أن يتزوج من مائة سيدة وسليمان ألف سيدة وأنت تريدنا أن نتزوج امرأة واحدة فقط،
وحضرت محاضرة دينية بين المبشر وأبناء القبيلة يعرض من خلالها دينه فكان يقول إن الرب أمرنا بأن نبتعد عن السرقة والزنى، ولكن قال أحد رجال القبيلة، الإنجليز هم اللصوص الحقيقيون فقد سرقوا الأبنوس وثرواتنا ومناجمنا وحملوها على المراكب إلى بلادهم اذهب وانصحهم واتركنا فنحن عراة ولا يوجد علينا ما يسترنا غير ورقة توت، كانوا أذكياء رغم بساطة معيشتهم.
كانت رحلتى بالصحراء الكبرى هى أطول الرحلات التى قضيتها فى حياتى فقد استغرقت شهورا عديدة التقيت خلالها بقبيلة «الطوارق» التى قابلت فيها سيدة عمرها فوق الـ٨٥ عاما ورغم أن الإسلام لم يصل إلى جزء كبير من هذه القبائل إلا أنهم جميعا كانوا يحفظون القرآن كاملاً، رغم أنهم وثنيون، ولكن من الغريب أنهم حين يأتيهم الموت يرفعون إصبعا واحدا إمعانا وإشارة إلى الخالق الواحد القهار.
ومن غرائب هذه القبيلة أن الرجال فيها منقبون «ملثمون» والنساء متبرجات وهذا ما استوقفنى كثيرا أفكر فى الأمر محاولا أن أجد تفسيرا منطقيا لما يفعلون، وسمعت الكثير وكان ضمن ما سمعت أن الرجال دائما فى الصحراء يسفون الرمال ولكن المرأة لاتخرج من بيتها. لكن اكتشفت أن ديانات هذه القبائل تعتبر الفم عورة لأنه مصدر خروج الخير والشر والرجال فى الطوارق يفتخرون بأنهم ظلوا مع زوجاتهم طوال أربعين أو خمسين عاما ولم تر فمه أو تقول الزوجة: لقد عشت مع زوجى أربعين أو خمسين عاما ولم أر فمه.
وعندما ذهبت إلى مدينة «غدامس» الليبية فى قلب الصحراء تعرضت لدرجات حرارة شديدة ومختلفة وهذا ما كان يصيبنى بالبرد دائما وكنت أخاف بشدة من العقارب السامة والثعابين والحشرات التى يمكن بلدغة بسيطة منها أن أموت قبل أن يتم إسعافى، ففى الغالب معظم هذه القبائل تعيش بعيدة عن المدن والقرى التى يوجد بها المستشفيات وإن وجدت عندهم فتكون بدون استعداد كاف.
دخلت «غدامس» الإسلام تحت قيادة عقبة بن نافع وتحول جزء كبير منها إلى الإسلام وكان يثيرنى ويدعونى إلى التفكير كيف سافر الفاتحون الأوائل إلى الصحراء حفاة عراة من أجل هدف عظيم وسام وأى طاقة أطلقتها كلمات القرآن فى هؤلاء الناس. أكثر ما أسعدنى فى «غدامس» قبل أن أنتقل إلى قبيلة الطوارق لأعيش فى خيمهم هو ذلك الفندق الوحيد الموجود والعتيق وتلك الغرفة التى نزلت فيها التى قيل لى إن المارشال «بالبو» سكنها من قبل وأن «صوفيا لورين» كانت هذه غرفتها أيام تصوير فيلم «الخيمة السوداء».
أما رحلتى إلى الهند فكانت أكثر رحلاتى متعة بعدما شاهدت عن قرب كل هذا الكم الهائل من الديانات.. الهنود مختلفون فى كل شىء حتى فى صناعة أطعمتهم المليئة بالشطة والتى كان يصعب على تناولها لأنها تصيبنى بالتهابات معوية حادة
.
وفى ذات يوم وأنا أتجول فى شوارع دلهى مع فوج من الأصدقاء المصريين والهنود والعرب شد انتباهى وأسرنى ذلك الرجل الذى رأيته أول مرة فى أحد شوارع دلهى عاصمة الهند، والذى كان نقطة تحول فى حياتى بعد ذلك،
وهو يجلس فى حالة ثبات ويرتفع فى الهواء بلا مساعدة من أحد وبالفعل بهرتنى قدرته العجيبة على التحكم فى ذاته، وبهرنى أكثر عندما سمعت قصته فهو «براهما واجيوارا» كان يعيش طفولة مرفهة وجميلة داخل قصر كبير وتلقى تعليمه فى إنجلترا بجوار أبناء الملوك والأمراء وهو يتحدث الإنجليزية ويحيط بالفلسفة الغربية وآدابها وعضو فى جمعية مارلبون الروحية بلندن، ولكنه عاد إلى الهند ليخلع البدلة الأنيقة ويهجر بيته وزوجته وأبناءه ويهيم فى الجبال والغابات حافيا عاريا لا تستر جسده إلا خرقة قصيرة وقديمة».
استطعت أن أصل إليه عن طريق صديق هندى قديم ودخلت إليه داخل الكهف الذى يعيش به فى أحد الجبال وعندما قابلته رحب بى وأعطانى بعض الحبوب المملحة لأتناولها وأراد أن يملأ لى جرة من الماء فنزل سلالم بئر داخل الكهف حتى استقر فى قاع بئر الماء وسكنت حركته تماما ولم يخرج منها إلا بعد ٤٥ دقيقة كنت خلالها أصرخ فى صديقى الهندى لنحاول أن ننقذ الرجل ولكنه كان يضحك ويقول هذه أشياء بسيطة بالنسبة له، وجلس براهما يتمتم بقراءة آيات من الإنجيل والتوراة ثم من كتب البوذية بعد أن أعطانى جرة الماء وقال اشرب فإنى أنزل للحصول على الماء الطاهر من قاع البئر، وقبل سفرى إلى القاهرة ذهبت إليه أرتجف خوفاً من الدنيا ومن الآخرة، ولكنه مسح بيده على رأسى وأعطانى منديلاً به صرة ملح وسافرت عائداً إلى مصر وأنا على يقين بأن السماء بالقرب من الله أفضل من الحياة بالقرب من الناس.
وبعد الهند ذهبت إلى ألمانيا التى لا أستطيع أن أنسى ما قضيته من ليال فى كباريهاتها المحترمة، وألمانيا بلاد مهذبة جدا وأهم ما بها هو الورش والمصانع، فكنت أنام على مصنع وأستيقظ على ورشة، حتى شعرت بالملل فقلت لأحد أصدقائى الألمان أليس عندكم «ملاهى» أو كازينوهات واصطحبنى يوم الإجازة لأحد الكباريهات ليست كالموجودة فى مصر ولكن كل من كانوا داخله من العجائز، وجلست أشاهد الاستعراض وأصغى إلى موسيقى فاترة حالمة ففى ألمانيا الكباريهات محترمة وفى أحد الأيام تجولت وحدى لأشاهد ألمانيا بنظرة باحث وعرفت أن هناك شوارع مخصصة للفجور والدعارة والكباريهات المنحطة، وعندما ذهبت إلى هناك عرفت أن هذه الشوارع موجودة من أجل تلبية رغبات السياح وبعد تجولى داخل الشارع عرفت أننى لا أتفرج على ألمانيا بل أتفرج على نفسى وعلى الصورة التى فى ذهن الألمان عنى وعن السياح.
وفى هامبورج كانت هناك لحظات كثيرة طريفة بدأت من اللحظة الأولى حيث الوقت عند الألمان أهم شىء بعكسنا نحن المصريين، وأتذكر جيدا عندما كنت أقف فى صالة الفندق أكتب خطابا إلى «روزاليوسف» وإلى جوارى الملحق الصحفى الألمانى يشد شعره لأن المبعوثين المصريين لا يفهمون أن هناك مواعيد يجب الالتزام بها، وعندما صعدت بعد وصولى للفندق فى هامبورج لغرفتى لأستريح وعندما فتحت باب الغرفة كانت خاوية تماما ولا يوجد بها سرير وغضبت جدا فقد كنت منهكاً من السفر وأريد النوم، وإذا لم تكن هذه غرفتى فسيكون هناك وقت حتى أنتقل إلى الغرفة الجديدة أو سأنتظر حتى يفرشوا هذه الغرفة، وبسرعة بحثت عن الخادم وعندما جاء أبديت له دهشتى من معاملتهم للسواح فى ألمانيا.. أتعطوننى غرفة فارغة هل سأنام على الأرض وأصاب بالتهاب رئوى وبرد..
وابتسم الرجل ونظر إلى شعرى الأكرت ثم اتجه إلى زر فى الحائط وضغط عليه فخرج سرير كامل المعدات من داخل الحائط، واتجه إلى اليمين وضغط على زر آخر فخرجت كنبة، وشد حبلا فى الخلف فخرج مصباح وكتب وكرسى ومائدة عليها راديو وتليفون ونوتة مذكرات وإعلانات وهدايا، وشعرت بالخجل من جهلى بالتكنولوجيا الحديثة- وأنا كاتب وروائى- أمام خادم ألمانى.
لكن الأيام القليلة التى عشتها فى روما شعرت خلالها كأنى أعيش داخل لوحة فنية رائعة ولا أريد مغادرتها، شاهدت المدينة وكأنها قديمة وتبدو كمتحف، ففى كل مكان تماثيل قديمة ونافورة، وروما حافظة أمينة لتاريخ الفن الرومانى وكل آثار الفن الخالدة فيها أقيمت بتبرعات من جميع أرجاء أوروبا بدعوة من البابا من أجل المسيح، وفى متحف الفاتيكان شاهدت قصة المسيحية مرسومة على الجدران بريشة دافنشى ورافائيل، وفى الكنائس والمعابد شاهدت الكهنة، ووجدت للكاهن المصرى غرفة خاصة فى متحف الفاتيكان قابلت فيها فراعنة أعرفهم وملوكاً قدامى من الأسرات الأولى ولا شك أن تماثيلهم سرقت وعبرت البحر إلى إيطاليا ثم بيعت للبابا والكنيسة.
وفى روما عرفت أننى لم أفهم النحت الفرعونى فى مصر وتعلمت الفرق بين النحت المصرى الفرعونى والنحت الرومانى، فعندما نشاهد التمثال الفرعونى من بعيد ومن قريب ومن كل الزوايا نجده جميلاً أما التمثال الرومانى فيبدو من بعيد وكأنه «لعبكة» لكثرة ما فيه من التفاصيل والحركات ولتعدد الشخصيات فى كل تمثال.
وفى كنيسة القديس بطرس وجدت نفسى تحت قبة هائلة من الرخام ودفعت ستين ليرة لكى أشاهد المتحف البابوى ودخلت سرداباً يحتوى على أرواب وقلانس وصلبان وتيجان من الذهب كل تاج منها يزن بضعة أرطال، ومصاحف مدهبة ضخمة فى حجم الدولاب وجواهر نادرة، وعجبت لهذا البذخ الأسطورى وكان هذا البريق الخافت والذهب والماس والمجد والسلطان ممتلكات للبابوات الزاهدين الذين تركوا الدنيا خلف ظهورهم.
كنت أمصمص شفتى وأقول مساكين هؤلاء البابوات.. إن هذه التيجان حمل ثقيل جدا بالفعل، وجلست أتأمل كل هذا فى حالة حيرة، وعلى الفور تذكرت الخديو إسماعيل الذى حاول أن يجعل القاهرة قطعة من روما بعد أن جمع الفن الكلاسيكى وألقى به فى الميادين من خلال التماثيل والعمارات الأنيقة التى مازلنا نراها حتى الآن، ولكن إذا اتبعنا خطى إسماعيل فسنجعل من القاهرة بلدا قديماً ومتحفاً للذكريات
.الزوجة الثانية
جلست كثيرا أفكر فى الارتباط بها وكانت تحادثنى نفسى أحيانا: هل تريد تكرار المأساة لماذا تريد أن تتعذب فى نار الحب؟
■ استطاعت هى أن تبعد عنى عقدى تجاه النساء ولكنى بعد فشلى معها مثل من سبقتها اتجهت للعلم والدين
■ نعم كنت ومازلت أفضل العلم والدين على النساء حتى على راحتى ونفسى
■ العلم هذا هو الهدف والدين هذا هو الباقى
■ كنت دائما أسعى إليهما مهما كانت العواقب والتضحيات
مصطفى محمود
«لم يخضع قلبى لعملية إجهاض لفشلى فى الزيجة الأولى.. ولم يكن مصيرى الاختباء داخل غرفتى أو منزلى لمرورى بتجربة زوجية كان مقدرا لها النجاح ولكنها فشلت، مثلما يفعل الضعفاء من الرجال فى مثل هذه المواقف.. بل كنت أقوى بكثير مما تتوقعون، واجهت الانفصال الأول فى حياتى بدبلوماسية وهدوء لاننى كنت قد توصلت إلى القرار بعد تفكير عميق.. بعد أن أصبحت الحياة الزوجية مستحيلة لتبنيها للغيرة القاتلة»
كانت هذه كلمات المفكر الكبير مصطفى محمود التى.. أطلقها وهو فى حالة من الشرود عندما تحدثنا معه عن تجربة الزواج الثانية فى حياته، فقد كانت أكثر أمانيه أن يتمتع بحياة أسرية وزوجية مستقرة.. فى هذه الفتره من عمره.. بعدما اكتمل عامه الستون..
كان يومه فى هذه الفتره مقسما إلى عدة أجزاء.. مابين علمه وإيمانه وأوراقه ومؤسسته الخيرية وبرنامجه وتطلعاته.. كانت عملية تفسير القرآن تأخذ منه ربع يومه الطويل الذى كان لا ينام فيه سوى ثلاث ساعات، وكان دائما يحاول الوصول منها إلى شىء لا يدركه..
ثم يترك القرآن ليغلق على نفسه سطح الجمعية ليراقب السماء، فمرصد مصطفى محمود دائما ما يحمل الجديد.. لا يستيقظ من تلك الساعات الذى يسبح فيها مع ملكوت الخالق إلا بعد طرق على الباب من أحد العاملين معه فى البرنامج «العلم والإيمان» لأن موعد التصوير حان..
وهكذا كانت تدور الحياة..
وكان يسأل نفسه دائما.
. هل أنا سعيد؟؟
ألا ينقصنى شىء؟؟
وتركنا رده كاملا لنسمعه معا كما رواه لنا بالضبط:
«لم تتحقق أمنية الاستقرار التى حلمت بها.. حلمت دائما بحياة أشبه بحياة أبى وأمى وطالما بحثت عنها طويلا.. قضية الغيرة مع سامية عرقلت هذا الحلم..
وفوجئت فى أحد الأيام بأننى أعيش وحدى بدونها.. وأخذت وقتا حتى تعودت على النظام الجديد.
. كنت فى هذه الأيام بدأت حلما اسمه (الجمعية) كتبت آلاف الأوراق وسجلت عشرات الحلقات التى تتكلم عن العلم والإيمان
وعرفت أن هناك خلاصة واحدة لاندماج الاثنين وتتمثل فى شىء اسمه (العمل).
طبعا أنتم عارفين انى مابحبش الاسماء الكبيرة المبهرة.. مثلا العمل يعنى إيه العمل ده.. العمل من غير كلام كتير إنك ما تنامش وتحلم، تقوم تفز وتشتغل والعالم كله يشوف إنتاجك.. وكانت دى بداية مشروع الجمعية والمؤسسة الخيرية.. دماغى مشغولة بميت حاجة.. وبنيت الجمعية واستقريت فى غرفة صغيرة فوق الجمعية مش محتاج حاجة من الدنيا إلا دى.. واطلقت عليها اسم التابوت .. بس هل كان ناقصنى حاجة؟؟»..
ولأن الحب الأول فى حياتى قد ذهب ضحية الغيرة- يقول مصطفى محمود- فقد ظللت اكثر من ثمانى سنوات صائما عن الزواج لدرجة ان اصدقائى المقربين اطلقوا على جملة اصبحت بعد ذلك على لسان القريب والبعيد وهى «درش عنده عقدة الحريمات» ولكننى بعد تفكير عميق وطويل تطلب منى عزلة استمرت لعدة أشهر أفكر فى الأمر وأقرأ كل الكتب السماوية والتفاسير والأحاديث النبوية لأتوصل إلى حقيقة المرأة وكيف يمكن السيطرة عليها.. إلا أننى أوقفت التفكير فى كيفية السيطرة عليها عندما قابلت زينب..
وزينب قابلتها عام ١٩٨١، تعرفت عليها داخل مجلة صباح الخير أثناء نقاش دار بينها وبين مفيد فوزى وإيهاب وبعض الأصدقاء حول لغز الحياة والموت وظللت أستمع لها دون تدخل ثم استأذنت منهم جميعا وناقشتها بعد ذلك بنفسى واقتنعت بها وأعجبت بشخصيتها القوية.. كان لها أفكار غير الأفكار التى أقابلها كل يوم.. وقمت بدعوتها بعد ذلك لزيارة الجمعية والمسجد لترى الانشاءات الجديدة.. وعندما حضرت اعطيتها مجموعة كتب وكتبت لها إهدائى عليها وكانت هى فى ذلك الوقت تعمل مأمورة ضرائب ولكنها كانت مثقفة دينيا وكانت محجبة.. ولديها موهبة الخطابة.. وحساسة وجلست كثيرا أفكر بالارتباط بها
وكانت تحادثنى نفسى أحيانا: هل تريد تكرار المأساة فهذه هى المرأة التى أخرجت آدم من الجنة؟
ولكن إعجابى بها كان اعجابا أكثر من إعجابى بأنثى فهو إعجاب بأنثى وفكرة.. واستطاعت هى أن تبعد عنى عقدى تجاه النساء وعلى الفور صارحتها بما يحوى قلبى من مشاعر حب تجاهها ولكنى لم أبلغها بأنى أعد لها مفاجأة وهى أننى قررت التقدم لطلب يديها من أسرتها.. دعوت نفسى على العشاء فى بيتها فى ليلة ما..
وللمصادفة كان اليوم الموافق يوم المولد النبوى وبعد العشاء وبينما أحتسى الشاى مع أخيها أحمد ووالدتها طلبت يدها بمنتهى الرقى والبساطة والهدوء وكانت مفاجأة بالنسبة لها فلم أخبرها كما ذكرت ولكنها قبلت على الفور وكانت سعيدة جدا ورحبت أسرتها بطلبى وكان وقتها فارق السن بيننا كبيرا فقد كانت هى فى الخامسة والثلاثين من عمرها بينما أنا فى الستين من عمرى، ولكنى لم أكن خاضعا للشيخوخة التى تهاجم من هم فى مثل عمرى ولم تكن هذ ه السن حاجزا بيننا..
ومن هنا أيقنت أنها تريد تحقيق الهدف الذى اجتمعنا عليه وهو العطاء بلا حدود وبلا انتظار مقابل،
وكان يتمثل هذا الهدف فى «جمعية محمود الخيرية الإسلامية» التى كنت اتخذت قرار انشائها منذ زمن بعيد ولكنه لم يترجم بشكل صحيح إلا حينما ارتبطنا سويا فأصبح هناك اتحاد بيننا، وبالفعل ورغم كل الصعاب الأمنية التى واجهتها من تجسس على التليفونات من الأجهزة الأمنية ومراقبة بشكل دائم إلا أننا انتصرنا على كل هذه الصعاب وقمنا بافتتاح الجمعية فى عام ١٩٨٢.
وكان لشقيقى مختار الذى تولى منصب محافظ الدقهلية دور كبير فى تأسيس الجمعية فى بدايتها.. ومثلما تقدمت إليها يوم المولد النبوى كنت أريد أن أتزوجها فى أقدس بقاع الأرض.. وتحققت رغبتى فتزوجتها فى المدينة داخل المسجد النبوى رغم أننى كنت أريد زواجها فى مكة داخل الكعبة إلا أن هذا كان القدر وقد احتوى نص وثيقة الزواج على الآتى:
«بسم الله الرحمن الرحيم.. المملكة العربية السعودية وزارة العدل.. الصكوك الصادرة من المحاكم الشرعية.. الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه الطاهرين وبعد، فبالجلسة الشرعية التى عقدت لدى أنا عبدالله محمد إبراهيم الرئيس المساعد لمحاكم منطقة المدينة المنورة والتحية لرئيسها فضيلة الشيخ عبدالعزيز بن آل صباع بناء على الطلب المقدم من زينب بنت حسين حمدى المصرية الجنسية بجواز رقم (١٧٤٦ فى ٢٦/٤/١٩٧٧م والمصرح لها بالإقامة برقم ١٠٤٣/٣ فى ١٨/١/١٤٠٢هـ) وبناء على إقرار الدكتور مصطفى كمال محمود حسين المصرى الجنسية بالجواز رقم (٢٢٣٠١ فى ٩/٧/١٩٨١م والمصرح له بالإقامة برقم ١٠٤١/٣ فى ١٨/١/١٤٠٢هـ) وعلى صك الطلاق الصادر من محكمة الزيتون فى بركة المسبح القاهرة برقم ٤٧٥ فى ٧/٤/١٩٧٩م وعلى شهادة كل من مروان عمر قصاص ومحمد هاشم رشيد المعدلين وفى الأصول الشرعية ثبت لديه أن زينب بنت حسين حمدى لم تتزوج بعد أن طلقها زوجها فتحى حسين حسن...
وأن الخاطب الدكتور مصطفى المذكور كفء لها وأن الصداق مبلغ أربعة آلاف ريال سعودى هى صداق مثلها وأنه لا ولىّ لها بالمملكة العربية السعودية وبناء على طلبها تم إجراء عقد زواجها من الخاطب الدكتور مصطفى كمال وصداقه الراتب المذكور وبناء على توفر الشروط وانتفاء الموانع فقد جرى عقد نكاح الدكتور مصطفى كمال محمود المذكور على زينب بنت حسين حمدى على الصداق المذكور بواسطة المأذون الشرعى أمين مرشد بتاريخ ٤/٢/١٤٠٢هـ بشهادة كل من السيد محمد هاشم رشيد وجمال محمد هاشم رشيد وما هو الواقع حرر من الضبط السادس لسنة ١٤٠١هـ وصحيفة رقم ٩٨ فى اليوم الخامس من شهر صفر الأخير من أيام ألف وأربعمائة واثنين من هجرة من له كمال العز ونهاية الشرف سيدنا محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم».
ثم واصل الحديث قائلا: كنت أنا ثالث زوج لها وكانت هى ثانى زوجة لى وتذكرت فى هذه اللحظة أن والدى أيضا كان ثالث زوج لأمى وعاش معها فى حياة مستقرة وجميلة، وحدثت نفسى بأنى سأنعم بنفس ما وصل إليه أبى رحمه الله من استقرار أسرى، فقد كنت أعتقد أنى شديد الشبه له فى ملامحى الشكلية وفى حظى، وما شجعنى للارتباط بها سريعا مسألة الدين ورغبتها فى أن تفكر فى نفس الهدف وتريد أن تكون معى شريكة هدف نصل إليه معا فقد كنت فى أشد الاحتياج لمن يقف بجانبى ويشجعنى على ما أقوم به فى وقت كان ينتقدنى الجميع فى تصرفاتى، معتقدين أننى عندما أهب حياتى وأنفق أموالى فى سبيل الله فإننى قد أصبت باضطراب عقلى.
ووجدت أن هذه الإنسانة ستقف بجانبى وعرفت أنه لابد من إنسانة تشاركنى فى رحلة الحياة التى ستكون جافة دون امرأة وهذا الزواج استمر أربع سنوات فقط وكان الطلاق لأنها لم تستطع أن تثبت ما قالته واتفقنا عليه بأن نهب حياتنا لله، واكتشفت أنها إنسانة مثلها مثل باقى بنات حواء، كانت امرأة تريد أن تخرجنى من الجنة.. تريد أن تعيش الحياة بما تحويه من نعم وفسح ورحلات للخارج قد اتفقنا أنها من المحذوفات من قاموسنا، وكانت حياتى قاسية جدا عليها فكيف تعيش معى فى حجرة فوق سطح جامع.
وهنا غرق مصطفى محمود فى موجة من الضحك وهو يقول:
لقد كنت أعلق على باب هذه الحجرة لافتة مكتوبا عليها «التابوت» يعنى نعيش فى مقبرة ولهذا لم تتحمل حياتى الميتة.. فالحياة أصبح لا معنى لها فى نظرها، مع أنها كانت تعلم ذلك من الأول بل بالعكس قالت إنها تحب بشدة هذه الحياة الدينية وحياة الزهد ولكنها فى النهاية امرأة عادية تريد أن تعيش زوجة لكاتب كبير.
كانت تعتقد أنها متزوجة من أحد الكتاب المعروفين وتحلم بأن تقضى رحلاتها فى باريس ولندن وأوروبا وتعيش حياة مرفهة وليس فى حجرة على سطح جامع مكتوب عليها «التابوت»، وطبعا كان لها أولادها من زوجيها السابقين ثلاثة أولاد كنت أعاملهم مثل أبنائى تماما وأحسست بعد مرور عام على زواجنا أن كلا منا يدور فى فلك مختلف تماما عن الآخر وأيقنت أن «زينب» نسيت الهدف الذى جمعنا سويا ولم تعد تفكر فيه وتم الانفصال فى عام ١٩٨٤ وجاء قرار انفصالنا بعد فترة من التفكير من الطرفين وعن اتفاق، فقد كان انفصالنا مهذبا ومحترما كما كان زواجنا، وقد حدث الانفصال بعد رحلة استجمام فى سانت كاترين... وقد حملت وثيقة الطلاق النص التالى:
«إشهار طلاق صدر عن يد المأذون... رقم الدفتر ٢٣٥٨٦٨ صفحة ٩... أنه فى يوم السبت الموافق ٦ من محرم سنة ١٤٠٦هـ الموافق ٢١ من سبتمبر ١٩٨٥م الساعة الثامنة مساء بحضورى وعن يدى أنا أحمد أمين السيد خليل مأذون الزمالك التابع لمحكمة عابدين للأحوال الشخصية وبمكتبى ٣٥ ش نوبار بعابدين حضر الرجل الرشيد مصطفى كمال محمود حسين ابن السيدة زينب حسن الحكيم ومهنته صحفى بروزاليوسف مصرى مولود ٢٥/١٢/١٩٢١ شبين الكوم ومقيم ٣ مسجد محمود ميدان جامعة الدول العربية ويحمل بطاقة ١٣٦٦٠ فى ١/٥/١٩٦٣ قسم الدقى ومعه وثيقة زواجه بزوجته مدخولتى السيدة/ زينب حسين حمدى بنت السيدة/ نفيسة محمد سيد أحمد مأمورة ضرائب مصرية مولودة ١٧/١٠/١٩٤٦ القاهرة ومقيمة ٨ شارع النويرى مربع ١٠٥٠/٤ بمصر الجديدة وتحمل بطاقة ٤١١٦٠ فى ١٥/١٠/١٩٧٢ النزهة،
ومحل قيد أسرة الزوج شبين الكوم شياخة الدقى رقم ١٠٢١٩ قسم الدقى والثابت زواجهما بتاريخ ٤/٢/١٤٠٢هـ صفحة ٩٨ عملية الشيخ أمين مرشد التابع لمحكمة المدينة المنورة، وبعد تعريفة المعرفة الشرعية وبشهادة كل من حسن عبد الله مرسى موظف مصرى مولود ١/٥/١٩٣٨ المنيا ومقيم ٣٧ شارع نوبار بعابدين بطاقة ٣٢٩٣٤ فى ١/١٠/١٩٧٤ عابدين ، أيمن أحمد خليل طالب مصرى مولود ٣١/١٢/١٩٥٩ لبيشة ومقيم لبيشة مركز أشمون منوفية بطاقة ٥٤٣٦٨ فى ٤/٢/٧٧ أشمون...
وأمامهما أنشأ الزوج المذكور طلاق زوجته المذكورة بقولة زوجتى مدخولتى السيدة/ زينب حسين حمدى الغائبة عن هذا المجلس طالق منى وعرف أن هذا هو الطلاق الأول بعد الدخول بها فطلقت منه أولى رجعية، له مراجعتها ما دامت فى العدة دون إذنها أو رضاها، وقد تعهد بإخطارها بهذا الطلاق الرجعى الأول للحضور لمكتبنا لاستلام شهادة طلاقها، وقد حررت هذه الشهادة من أصل وثلاث صور سلمت إحداها للمطلق والثانية إلى المطلقة والثالثة إلى السجل المدنى».
ولتأثرى الأشد قسوة بفشل علاقتى الزوجية الثانية والتى انتهت دون إنجاب أطفال قمت بعدها بكتابة مقال قلت فيه:
«لقد قررت بعد الفشل الثانى أن أعطى نفسى لرسالتى وهدفى كداعية إسلامى ومؤلف وكاتب وأديب ومفكر وقد اقتنعت تماما بأن هذا قدرى ورضيت به». ومنذ هذا الحين وأنا أعيش فى جناح صغير بمسجدى بالمركز الإسلامى، ثم انتقلت إلى شقتى بعد ذلك عندما اشتد المرض وكنت دائما أغرق وحدتى فى العمل.
وتعودت أن أعطى ظهرى لكل حقد أو حسد ولا أضيع وقتى فى الاشتباك مع هذه الأشياء وأفضل أن أتجنبها وأتجنب أصحابها حتى لا أبدد طاقتى فى ما لا جدوى وراءه .. وكانت انتصاراتى على نفسى هى أهم انتصارات فى حياتى وكانت دائما بفضل الله وبالقوة التى أمدنى بها وبالبصيرة والنور الذى نور به طريقى.
ولذلك كان الحب معرضا فى كل مرة للقتل لأن النساء تصورن أن القرب منى نعيم الدنيا ولم يفكرن بأن غايتى هى نعيم الآخرة،
وأيقنت بأن الحب فى طبيعته قصير العمر، فإن لم ينته بيدك أو بيد محبوبك فهو ينتهى بالطعن فى السن والزهد فى الشهوات
، واكتشفت أيضاً أن الحب الوحيد الباقى طويل العمر هو علاقتى بالله سبحانه وتعالى خاصة إذا ما ترجمت هذه العلاقة فى أفعال تحس، ولذلك فإن حبى للناس يمكن أن يكون فى الله أيضاً.
وعرفت أنه من الصعب الآن أن أجد الحب النادر مثل الذى كان بين النبى صلى الله عليه وسلم والسيدة خديجة رضى الله عنها التى أعطته نفسها ومالها وصحتها وعمرها بكل سعادة، وهذه نماذج نادرة بل نادرا ما يجد الإنسان شخصا يفنى معه فى الهدف
، أيا كان فقد تلقيت دروسا طويلة وعميقة وعرفت حدود هذا الحب.
ثم إن مشكلة المرأة أنها تستنزف منك شيئا غاليا جدا هذا الشىء اسمه الاهتمام وهذا أغلى ما يملك الإنسان، لأنه الطاقة النفسية البحتة، وحين تحب وتنشغل وتسهر فإن هذا الانشغال هو ضياع الهمة لأن همتك تصبح حينئذ فى المحبوب ويضيع منا أغلى ما نملك.
.
وظل مذهبى منذ تلك اللحظة فى الحياة هو أن أقاوم ما أحب وأتحمل ما أكره باعتبار أن الحب الحقيقى الباقى هو حب الله سبحانه وتعالى أما الحب والهوى فهو خداع والذى جرب يعرف ذلك جيدا.. يسهر وينشغل. ولكن الآن طغت المادية بشكل كبير على العالم فعلى الرغم من أن باريس ولندن ونيويورك عواصم النور والحضارة إلا أنها تحولت إلى بلاد العلاقات الجنسية المنحلة والشذوذ والمخدرات والهيروين، فالرجل متزوج وله أكثر من عشيقة وزوجته لها أكثر من عشيق، فقد سيطر الإحساس باللذة والمتعة على حياة الناس وأصبحت حياتهم نوعا من الأخلاق القرودى وتحولت حياتهم من الرقى والسمو إلى الانحلال والفجور.
وأخيرا كنت أنظر إلى نفسى فى المرآة وأدقق فى النظر إلى ملامحى وبنيانى وأقول:
لماذا دائما تفشل علاقات الحب والزواج الموجودة فى حياتى؟
لقد فشل الحب الأول «عديلة» فى مهده وأنا صغير بسبب ضعفى أمام مجموعة من الصبية، وهنا أتساءل هل لأنى كنت دائما أفضل الفكر والعلم والدين على الحب، واجد الإجابة.
. نعم كنت أفضل العلم والدين حتى على راحتى ونفسى فهذا هو الباقى وهذا هو الهدف الذى كنت دائما أسعى إليه مهما كانت العواقب والتضحيات التى تبذل فى سبيل ذلك الهدف السامى والنبيل.
.. ولقد تزوجت مرتين وفشلت فى الزيجتين وربما هما معذوراتان لأن لدى مشكلتين فبجانب مسألة الطبيب والكاتب والفيلسوف والإعلامى والمفكر والمؤلف هناك أيضا أمر أصبح مشكلة فى تلك الفترة وهو أننى الذى أخطط لكل شىء فى حياتى، لم أخطط أننى سأصبح فى يوم من الأيام صاحب رسالة.. بالفعل أصبحت أحمل رسالة للجميع.
عشت بين سكان «الدنكا»
■ الإنسان فى المناطق القطبية سمين مكتنز بالدهن، تماما مثل الدب والحوت، ليقى نفسه غائلة البرد، وهو فى المناطق الاستوائية الحارة نحيل هزيل أسود كأنما اخترع لجسمه مظلة تقيه الشمس وسحالى الكهوف، التى تعيش فى الظلام لا وظيفة عندها للبصر ولا للألوان ولهذا فهى عمياء وبلا لون، على حين أن سحالى البرارى حادة البصر وملونة
مصطفى محمود
أمران عُرف بهما مصطفى محمود.. الأول أنه حقق كل حلم خطر على باله حتى لو كان حلمه ذات يوم أن يحصل على ما حصل عليه السندباد.. فهذه الشخصية الأسطورية التى جابت العالم وحصلت على تجارب ومعارف أسطورية حلم بها الطفل مصطفى محمود منذ ثمانين عاما وهو يقرأ قصصه المرسومة على ورق أصفر، والتى كان والده يحضرها له وهو عائد من عمله.. وبعد ثلاثين عاما حقق الشاب مصطفى محمود حلمه بعدما جاب مئات الدول والقبائل الأفريقية والمناطق المجهولة فى صحراوات أفريقيا وأدغال أمريكا الجنوبية وجبال آسيا..
حاول الوصول إلى أعماق المناطق التى يحط فيها ولم يشاهدها من الخارج، ويهتم بالتقاط صور له أمام المعالم السياحية كما يفعل أى سائح لدرجة أن يسير من وسط أفريقيا إلى القاهرة على أقدامه على مدار شهور، يحدد منابع النيل، ويخترق أدغالاً لم نسمع بها ويعيش مع أبناء قبائل هذه الأدغال.. ثم يذهب إلى لندن ليزور بيج بن وفقط بل اخترق أحياء لندن غير المعروفة، ودخل إلى أزقة وشوارع مجهولة ووصل إلى منازل وأوكار الروحانيات الشهيرة فيها
.. هل شارك مصطفى محمود فى جلسات تحضير الروحانيات؟
نعم، شارك وسجل وحلل ثم ضحك فى النهاية، وقال إن دراويش السيدة أكثر إتقانا من علماء تحضير الأرواح الإنجليز المشهورين الذين تُكتب عنهم موسوعات وكتب.. وكل ما سبق يعتبره البعض كثيرا جدا، لكن مصطفى محمود وحده يعلم السر فى ذلك، وقد قاله بالفعل، إن كل ذلك إشباع لرغبة طالما انتابته وهو صغير بأن يعيش ما عاشه السندباد، وفقط.
0 التعليقات:
إرسال تعليق