Advertisement

تدین وروشنة وسیارات مرسیدس





التغیرات الاجتماعیة التي تراھا مصر في الآونة الأخیرة عاصفة وعاتیة ومن المحتم أن تلد شیئًا ما .. ھناك أشیاء لم
یكن أحد یجسر على التفكیر فیھا بھا منذ خمسة أو ستة أعوام، والیوم صار الكلام عنھا مملاً.. الأمثلة كثیرة
ویصعب حصرھا، لكن العقل یستحضر من على السطح البرنامج التلفزیوني المذاع على الھواء الذي یتشاجر فیھ أبو
الفتاة الحامل مع أبي الفتى الذي غرر بھا، ولا ھدف للبرنامج إلا تقدیم نوع مسل من مصارعة الدیوك للمشاھدین
أثناء تناول العشاء .. المعارك الطائفیة تبرز للسطح بوضوح تام ویتم تداولھا بلا ھمس، ویقول أتباع كل دین عن
الآخر ما لم تتصوره إلا في كوابیسك .. النقد الصریح جدًا الموجھ للحاكم وابنھ دون أن یدل ھذا على مكسب
حقیقي في الحریات .. بل إن الحكومة استغلت ھذه الجرأة كالعادة لصالحھا، ووضعت المعارضة في خانة معدة لھا
سلفًا ھي خانة (أیھا العالم ..كیف لا أكون دیمقراطیة وھم یشتمونني بھذه الجرأة دون أن أسحلھم في الشوارع ؟)..
والمعارضة متحمسة لا تعرف أنھا تلعب دورًا رسم لھا من قبل ألا وھو تجمیل النظام.. والحقیقة – كما یقول د.
جلال أمین - أن ھذا التسامح یمكن أن ینقلب على الفور لو عبثت بواحد من مقدسات الحكومة الحقیقیة مثل (الكویز)
وتصدیر الغاز لإسرائیل أو دعوت إلى عصیان مدني وھو الحل الوحید الممكن لإسقاط النظام .. عندھا سترى أنیاب
الدولة الحقیقیة ..
واحدًا تلو الآخر یتھاوى أحد التابوھات السابقة. یقول الزمیل مؤمن المحمدي في مقال لھ بالدستور: "عندما یغني
اللنبي ( وقف الخلق) وھو ثمل فإنھ یخرق اثنین من المقدسات: الأغاني الوطنیة وأم كلثوم التي اعتدنا أن نعتبرھا
مصر بشكل ما .. "
لكن التغییر الذي وجدتھ فاحشًا ویھدم الكثیر من المسلمات عندي ھو ھذا (الفجر) – بضم الفاء – الذي تتعامل بھ
الإعلانات التلفزیونیة ھذا العام ..
في دراسة ممتعة في (الإیكونومیست) قرأت عن تجربة قام بھا أحد أساتذة سیكولوجیة الإعلان الذي قال إن ھناك
طریقتین للإقناع .. الطریقة ألفا التي تقوم على ترغیبك في السلعة، والطریقة جاما التي تقوم على إزالة مقاومتك ..
الإغراق مھم جدًا للطریقة جاما .. دعك من التظاھر بالدقة .. عندما أرسل ھذا العالم تلامیذه یتسولون خمسة
دولارات لم ینل أحدھم شیئًا، بینما عندما تسولوا سبعة دولارات ونصفًا حصلوا علیھا !... إن مبلغ سبعة دولارات
ونصف معقد لا یسمح بالتفكیر ویزیل بالتالي مقاومتك غیر الشعوریة .. ھذا یفسر ال 19.99 الشھیرة في أسعار
السلع ، ویبدو أن سیكولوجیة الإعلان عندنا تلعب على الطریقة جاما لكنھا كي تھدم مقاومتك تحاول تسفیھ ما كنت
تؤمن بھ من قبل .. أنت كنت مخدوعًا واھمًا .. فلتفق وتشتر سلعتنا ..
منذ زمن بعید وقیمة الكفاح والعمل معنى مقدس لا یمكن المساس بھ، لكن إعلانات التلفزیون اخترقت ھذا التابو
ببساطة .. المھندس عباس كافح في تعمیر الصحراء عشرین سنة حتى صار شیخًا أصلع مھدمًا واشترى سیارة
مرسیدس .. یا لھ من أحمق !.. بینما الولد الروش فلان أتصل برقم ھاتفي من ( 0900 ) وعلى الفور حصل على
نفس السیارة .. !
ھكذا في ثوان سخر الإعلان من قیم الكفاح ومن تعمیر الصحراء ومن كل شيء .. لم تعد ھناك قیمة في العالم إلا
الروشنة والاتصالات ..
بدأ الأمر على استحیاء مع بدایة الانفتاح في أوائل الثمانینات، عندما سمح التلفزیون لمظاھرة شعبیة بأن تظھر على
شاشتھ .. كانت مظاھرة تردد من حناجر بحت بالھتاف: مش عاوزة سؤال طبعًا مینرال !.. ھؤلاء ناس حملوا قلوبھم على أیدیھم وودعوا أطفالھم من أجل القضیة الوحیدة التي تھم ومن أجلھا نضحي بكل مرتخص وغال: المیاه
المعدنیة ..
بعدھا رأینا مع ھشام سلیم كیف أن شرائح البطاطس المقلیة ھي العامل الوحید الذي یجمع طبقات الشعب وكل فئاتھ
.. وظھر أحمد السقا الذي یضغط علیھ الزبانیة ویعذبونھ وھو مربوط في قبو مخیف، لكنھ مصر على الھتاف من
أجل قضیتھ: حاجة ساقعة ببسي .. ویوشك أن یقول: والله لأموتن علیھا ..
الفتى (الروش) یعاني من أن أباه في العیادة طول الیوم لا یفعل شیئًا إلا أن یعد المال .. لكن أنا (مكبر دماغي
وبشرب مش عارف إیھ كده)..
حتى طریقة نطق الحروف السریعة ذاتھا توحي بالاستھتار .. ھناك مذیع إعلانات لا أعرف اسمھ لكنھ دخل ھذا
المجال مع ظاھرة (طارق نور) في بدایات الانفتاح، ویوشك أن یكون المذیع الأوحد الآن. ھو الذي نسمع صوتھ
یقول: (أمیییر كرارة) في البرنامج الشھیر .. ھذا الصوت الرفیع المنبھر دائمًا یعبر أصدق تعبیر عن السعار
الاستھلاكي الذي أدخلنا فیھ السادات، فلو كان لھذا السعار صوت لكان صوتھ .. الحق نفسك .. وفر فلوسك ..
انسف .. جدد .. اشتر الآن ..
المجال الثاني الذي خرقت فیھ الإعلانات التابو ھو مجال الدین .. ھذه ظاھرة ذكیة أخرى تستغل (إیمان الروشنة)
تلك الظاھرة الجدیدة التي تغزو أوساط الشباب .. الشباب الثري أو المستریح یشعر بتأنیب الضمیر بین دنیا مغریة
ودین ینادیھ فیتخذ ھذا الحل الوسط . اللحیة الأنیقة القصیرة والبدلة السوداء والعطر الفاخر والموبایل مع التدین ..
ھكذا یشعر بأنھ جمع بین الدنیا والدین، وھذه الظاھرة ھي التي أفرزت الحجاب الذي یُلبس على الجینز أو الثیاب
الضیقة مع ماكیاج كامل یدغدغ في الرجل الشرقي ذكریات عصر الجواري؛ فالفتاة تلبس ما تحب لكنھا تضع
إصبعیھا في عین من یجرؤ على أن یطالبھا بالحجاب الصحیح.. ولو لم تجد لھا مكانًا محجوزًا في الجنة فلسوف
تندھش بحق. من أفضل ما أفرزتھ ھذه الظاھرة على كل حال ذلك الشاب عمرو خالد الذي ھو صورة أنیقة
معاصرة للداعیة، والذي ینسخ الشباب محاضراتھ ویتداولونھا عبر شبكة الإنترنت ..لم ترحم الإعلانات ظاھرة
التدین ھذه وقررت أنھا مفیدة جدًا .. لقد انتھى عصر صوت محمد الطوخي الوقور المتھدج الذي یقول : وھبة
الجزء عشرة جنیھات .. للمرة الأولى نسمع عن حج خمس نجوم وعن إیمان الموبایلات .. ھناك إعلان جذاب یسمع
فیھ الشباب أغنیة دینیة من الموبایل فیتركون لعب الاسكواش – نشاط الشباب المصري المعتاد – لیلبوا النداء..
وھكذا تصل الرسالة: اشتروا خطوط الموبایل الجدیدة واعطوني مالكم كي ننعم جمیعًا بلذة الإیمان ومستقبل باھر في
حب مصر ..
ماذا یفعلون بك یا وطني ؟.. ھل ھم شیاطین تتحرك طبقًا لخطة مرسومة أم ھم مجرد بلھاء متخبطین لا یھمھم إلا
الثراء ؟.. لا أدري . لكنني أرى مستقبلاً باسمًا من الشباب الروش الذي یكسب سیارة مرسیدس بالموبایل ویتبادل
الأغاني الدینیة ویؤمن أن المھندس عباس الذي عمر الصحراء أحمق .. فقط أدعو الله أن یقبض روحي قبل أن أقتنع
وأجري أول اتصال برقم ( 0900 ) اللعین !

0 التعليقات:

إرسال تعليق

Twitter Delicious Facebook Digg Stumbleupon Favorites More