Advertisement

شباب عاوز الحرق ..!




ثمة إجماع في وسائل الإعلام والأعمدة الصحفیة على أننا رزقنا – من دون الأمم – بألعن جیل من الشباب الرقیع
المنحل الشھواني التافھ.. (شباب عاوز الحرق) باختصار شدید.. نحن وكل جیلي سلبنا الشباب أحلامھ، واحتللنا
المناصب التي یمكن أن یطمح إلیھا، وحرمناه أبسط الحقوق التي یمارسھا أي قط في زقاق: الملجأ والزواج،
وأعطیناه سفینة غارقة نخرة امتلأت بالثقوب نُھب كل لوح خشب وكل مسمار فیھا، وقلنا لھ إن علیھ أن یتولى
الإبحار بھا بعدنا .. وینظر الشاب إلى البحر الذي یعج بالأساطیل وحاملات الطائرات التي صنعھا الآخرون،
فیتساءل: ماذا كنتم تفعلون طیلة ھذا الوقت حینما كانت السفینة لكم ؟.. فنقول لھ: أنت شاب شھواني قلیل الأدب ..
وربما سافل كذلك .. مشكلتك ھي أنك كسول ترید كل شيء بلا تعب..
نعم .. وسائل الإعلام تنظر بریبة واضحة إلى ھؤلاء الأوغاد بشواربھم نصف النامیة والحبوب في وجوھھم
وأصواتھم الخشنة .. وھي تتظاھر بحبھم وتقدم لھم الكثیر من (نانسي عجرم) و(ألیسا)، لأنھم ما زالوا الوسط
الاستھلاكي الأفضل، لكنھا تعتقد في قرارة نفسھا إنھم خطر أمني داھم، وأنھم یدارون ذیولھم في سراویلھم..
المشكلة فعلاً أن الشباب لم یعد على ما یرام .. ھذه الطاقة الكاسحة المعطلة التي حرمت الأمل والمشروع القومي
المشترك تزداد خطرًا یومًا بعد یوم، والفراغ یھدد كل شيء وكل بیت .. لاحظ انتشار الكافتیریات وملاعب البلیاردو
ومقاھي السایبر.. باختصار: ثقافة البطالة. لاحظ نمو التطرف الدیني الذي تزامن مع غیاب المشروع القومي والأمل
في الغد. ولغة (الروشنة) التي یستعملھا الشباب تحوي في % 90 من كلماتھا معاني الاستھتار والتحدي .. دعك من
الوقاحة التي یشكو منھا كل مدرس .. یحكي الدكتور (جلال أمین) – العالم الوقور عظیم الشأن - عن شاب من
ھؤلاء دنا من سیارتھ وھو جالس فیھا ینتظر زوجتھ، فاستند على النافذة بجواره، وراح یثني مرآة سیارتھ ویفتحھا
بلا توقف وبلا ھدف واضح وعلى سبیل التحدي فقط، بینما ظل الأستاذ الكبیر جالسًا في السیارة صامتًا یرقب ھذا
السلوك غیر المفھوم..
لكننا نحن المسئولون بالكامل عن خلق ھذا الوحش .. وكما یقول الشاعر العربي:
إنا بأیدینا جرحنا قلبنا .. وبنا إلینا جاءت الآلام
قرأت لأحد الصحفیین الكبارالفلاسفة – (ولن أذكر أسماء لأن بلاط السجن سیكون باردًا جدًا في ھذه الفترة من
السنة) - أنھ كان في رحلة مع مجموعة من الشباب حینما سمعھم یغنون: الأقصر بلدنا بلد سواح .. فیھا الأجانب
تتسوح .. وكل عام وقت المرواح بتبقى مشتاقة تروح .. وتسیب بلدنا!
یتساءل الأستاذ العبقري: أین ذھب الانتماء لدى جیل الشباب ؟... ذھب یا سیدي الفاضل بسببك وسبب أمثالك، الذین
أیدتم كل نظام حكم وكل سیاسة، وعملتم جاھدین من أجل الوصول إلى الثراء والنفوذ صاعدین سلمًا من أجساد
الشباب المطحون .. في عصر كانت الصحف المصریة ترسم فیھ الزعماء العرب جالسین على (قصریة) أطفال،
وفي عصر كان یعلن فیھ في الصحف عن زیادة الأسعار فتكتب مقالاً كاملاً تؤید فیھ ھذه الخطوة المباركة التي
تأخرت كثیرًا، وحینما یضع السادات كل قوى مصر السیاسیة في السجن تكتب مباركًا (ثورة سبتمبر) ھذه ..
یؤمن الشباب بعبد الناصر فیخرج ألف كتاب یلعن عبد الناصر .. یحن الشباب إلى سعد زغلول فتمزقون سعد
زغلول ..كل إنجازات یولیو تحولونھا إلى كوارث یولیو .. تھللون للاشتراكیة في عھد عبد الناصر ثم تلعنون أباھا
في عھد السادات .. وتلعنون أمریكا في عھد عبد الناصر وتكتشفون أنھا الشریك الكامل الأمین في عھد السادات.
ولولا بعض الحیاء والخشیة من النظام الحالي الذي یستمد شرعیتھ من أكتوبر لشككتم في حرب أكتوبر ذاتھا :
"المصریون لم یعبروا القناة في أكتوبر .. القناة ھي التي تحركت إلى الغرب بضعة كیلومترات ."
في إحدى فترات الخلاف العابرة مع أمریكا قرأت مؤخرًا لصحفي كبیر جدًا یقول: "علینا أن نشفى من خرافة أن
%99 من أوراق الحل في ید أمریكا!". والحقیقة أنك یا سیدي كتبت ھذه الخرافة مرارًا من قبل خاصة في عھد
السادات ..من حسن حظ الشباب أنھ لم یقرأ مقالاتك القدیمة تلك وإلا لجن بالتأكید..


تخرج وسائل الإعلام للقاء الشباب ومعھا المذیعة التي سكبت زجاجة أكسجین كاملة على شعرھا ووضعت طنًا من
المساحیق كأنھا إحدى بطلات مسرح الكابوكي الیاباني.. تسأل الشاب عن اسم وزیر (التوابع المضادة) أو وزیر
(التعاون الإعلامي التخطیطي) فلا یمن الله علیھ بكلمة .. من ثم تخرج الصحف صارخة: الشباب تافھ شھواني رقیع
.. لیت الشباب یھتم بعقلھ كما یھتم بالدھان الذي یسكبھ على شعره..
الحقیقة أن الإجابة عن ھذا تكمن في كلمات (أورویل) في روایتھ الرائعة 1984 عندما دبت مشادة بین البطل
وحبیبتھ حول (ھل كان الحزب في حرب مع أیستاسیا أولاً أم كان في حرب مع إیوراسیا ؟)... یقول (أورویل) إن
الفتاة لم تكترث بھذا على الإطلاق لأنھا لا ترى فارقًا بین ھراء وھراء آخر ..
الشاب لم یختر وزیر (التعاون الإعلامي التخطیطي (ولم یسمع عنھ من قبل، ویوم یرحل ھذا الوزیر فلن یعرف أحد
السبب .. إذن ما جدوى معرفة اسمھ ؟.. لا فارق بین (ھراء وھراء آخر).. اسمحوا للشاب أن یختار وزیر) التعاون
الإعلامي التخطیطي) ثم طالبوه بأن یعرف اسمھ، وانصبوا لھ المشانق لو لم یعرفھ..
نفس الشيء ینطبق على الأسئلة من طراز (متى مات بیلاطس البنطي ؟).. (ما طول نھر المسیسبي ؟).. (من مؤلف
كتاب تثقیف الشعوب في تقنیة الحاسوب ؟).. السیدة المذیعة لو انتزعوا منھا البطاقة الأنیقة لن تعرف الإجابة،
والسید المعد لا یعرف الإجابة وأنا لا أعرف الإجابة، ولیس مما یفید الإنسان المعاصر أن یعرف طول نھر
المسیسبي ما دامت ھذه المعلومات موجودة في أیة دائرة معارف .. إنھا ثقافة (الكلمات المتقاطعة) التي یصرون
على أنھا ھي الثقافة ولا شيء سواھا، بینما الثقافة ھي أن تستخدم ما تعرف في تكوین مفھوم متكامل للعالم من
حولك وكیفیة التفاعل معھ..
لكن وسائل الإعلام لا ترضى بھذا .. ھي لا ترید إلا أن ترى الدماء تسیل وتلطخ كل شيء .. لھذا تطالب برأس
الشاب التافھ.. بینما اسم آخر أغنیة لراغب علامة أو عید میلاد روبي ھي بالفعل معلومات تبدو مھمة للشاب .. على
الأقل ھو لا یُرغم على معرفتھا، وتمس حیاتھ – ورغباتھ – بشكل واضح .. ولا تتعالى علیھ أو تعده بما لا یمكن
تحقیقھ .. ولا تھدم ما آمن بھ من قبل بلا مبرر.. والأھم أنھا لا تسد علیھ طریق الترقي والنمو في الحیاة ..
باختصار: (روبي) تبدو ھي الشيء الوحید الحقیقي وسط كل ھذه الأوھام وكل ھذا الكذب..
الشباب لیس مجموعة من الملائكة، لكنھم لیسوا شیاطین ..سوف یصیرون كذلك لو لم نفق من غیبوبتنا، ونحن لسنا
ملائكة ولا شیاطین .. نحن ملاحون خائبون غرقت سفینتھم أو كادت .. وعلینا أن نترك قطعة خشب واحدة طافیة
لیتمسك بھا من یأتون بعدنا.

0 التعليقات:

إرسال تعليق

Twitter Delicious Facebook Digg Stumbleupon Favorites More