Advertisement

لإنه الأستاذ



قبل أن أخط حرفاً في ھذا المقال، یجب أن أعترف بأن العبد لله لیس متخصصاً في السینما ولم یدرسھا إلا بشكل ھاو
من خلال مشاھدة الأفلام، وقراءة كل ما وقع في یده عن ھذا الفن الرائع. لكني أحسب أن عندي عقلاً یمیز، وأعرف
الزبد الذي یذھب جفاء وما ینفع الناس. أعرفھ وإن كنت لا أعرف غالباً كیف أقدم الأخیر.
السؤال الذي أرید أن أسألھ ھو: ھل العبقري (یوسف شاھین) عبقري حقاً ؟.. لنضع السؤال بشكل أدق: ھل (یوسف
قد أضاف شیئاً لیوسف شاھین المخرج ؟...سؤال أمین لا أبتغي منھ إلا الظفر بإجابة Auteur شاھین) المؤلف
أمینة .. ویجب أن اذكر القارئ الكریم بأنني أعتبر (الأرض) أعظم فیلم مصري على الإطلاق، ولم أستطع قط أن
أرى لقطة واحدة من (باب الحدید) من دون أن أتابع الفیلم حتى كلمة النھایة.
یكتم البعض ابتسامتھ الخبیثة ویھمس البعض في ضیق: "ھي ذي اللعبة التقلیدیة .. اقذف العمالقة بالحجارة لیُذكر لك
أنك یوماً قذفتھم .. جربھا الكثیرون مع (العقاد)، وجربھا (العقاد) نفسھ مع (شوقي) في مستھل حیاتھ حین فتح علیھ
مدافع الدیوان..". لكني أكرر أن ھذه ھي المشكلة فعلاً.. لا أحد یصدق أو یقبل أو یسمح بأن یكون (یوسف شاھین)
أقل من المكانة التي رسمناھا لھ..ومن ھنا یأتي السؤال: ھل الإمبراطور بكامل ثیابھ أم أننا نخشى الاعتراف بعكس
ذلك كي لا نبدو حمقى ؟ لماذا؟.. لأنھ الأستاذ..
لقد قدم شاھین فیلمھ الأخیر (إسكندریة نیویورك) وفیھ تحدث عن الأمور التي تروق لھ كالعادة بدءاً ب(فرید استیر)
والدراسة في أمریكا الخ، تملق تلك الأخیرة إلى حد لا بأس بھ، لكن ھذا الصنم القاسي لم یتقبل القربان، ورأى أنھ
دون المستوى طبقاً لكلمات لجنة التحكیم في مھرجان نیویورك .. والنتیجة..سوف تبدأ أعنف حملة ممكنة تتھم
رفض المھرجان لفیلم شاھین الأخیر بأنھ عمل عنصري قذر، وأنھ یعبر عن الوجھ القبیح الحقیقي لأمریكا. ولن
یجرؤ أحد أبداً على مراجعة إمكانیة أن یكون الفیلم ردیئاً فعلاً. لماذا ؟.. لأنھ الأستاذ..
غیر قابل للمراجعة أو المناقشة. وحتى الكومبارس الذي یقدم Cult ھذه ھي مشكلة یوسف شاھین.. إنھ تحول إلى
للبطلة كوب ماء في أحد أفلامھ یعتبر نفسھ أستاذاً من أساتذة التمثیل، ویقول في وقار وغموض:" أفضل أن یرى
الناس العمل لیحكموا بدلاً من أن أتكلم عنھ". وغدا من التقلیدي في كلام أي ممثل أن یحكي عن (تجربة التطھیر أو
المیلاد الجدید) التي اجتازھا بالعمل مع شاھین.
یصر شاھین على أنھ مفكر .. وھنا أخطر المآخذ التي لا أدري كیف نقبلھا في أفلامھ .. إلام یفضي المسار الفكري
لفیلم (المھاجر) ؟.. رؤیة مختلة لقصة سیدنا یوسف مع تنویھ واضح إلى أن (الأرض لمن یستطیع أن یزرعھا) ولا
أعرف إلام یفضي بنا ھذا ؟.. ماذا عن الرسالة المضطربة في (وداعاً بونابرت) حول أن العلاقة المثلیة بین جنرال
فرنسي وشاب مصري ھي الطریق الوحید إلى امتزاج الحضارات والسلام ؟. حل مشكلة التطرف في (المصیر) ھو
أن نرقص أكثر.. وقد نشب خلاف صحفي شھیر عندما عرض (حدوتة مصریة) لأنھ تجاھل كون الفكرة لیوسف
إدریس .. قال یوسف إدریس إن شاھین جاءه بفكرة ساذجة عن ولد اسمھ (آدم) وبنت اسمھا (حواء) یلتقیان للحب
فیبرز لھما رجل غلیظ یحمل شومة المفترض أنھ (المجتمع).. طبعاً لم یكن إدریس مستعداً لسماع المزید من ھذا
الكلام، وقدم فكرتھ العبقریة التي تدور حول محاكمة إنسان داخل ضلوعھ، بسبب إحباطھ للطفل بداخلھ.. وكیف
تحول ھذا الطفل إلى جلطة تسد شرایینھ التاجیة. یمكن لنا إذن أن نتصور الفیلم لو خرج بصورتھ الأولى !
في أفلام شاھین یتكرر ذلك الخلط الساذج بین المتصوفین ورواد الموالد والأصولیین، فھو – كالخواجات تماماً –
یضع كل ھؤلاء في سلة واحدة تمسك بالدف وتتطوح ذات الیمین والیسار، برغم أنھ لا یمكن الجمع بین المتصوفین

والأصولیین أبداً، فكلاھما یرى الآخر خارجاً عن الدین. وقد اتھمھ د. (عاطف العراقي) أستاذ الفلسفة الشھیر بأنھ
اخترع (ابن رشد) لا وجود لھ.. ماذا عن الإرھابي الذي یضع أیقونة القنبلة على بریده الإلكتروني ؟... لكن أحداً لا
یعلق .. لماذا ؟.. لأنھ الأستاذ..
أما عن الجانب الأخلاقي للأفلام فھناك میزانان في الرقابة .. میزان للعامة ومیزان لشاھین .. ھكذا تصفح الرقابة
في تسامح أسطوري عن علاقات الحب المثلیة التي لا یخلو منھا فیلم من أفلامھ تقریباً، ولعلھ تملق لتیار العولمة،
وأراھن أنھ یفتخر في مناقشاتھ الخاصة في الغرب بأنھ أول من تجاسر على تقدیم علاقات كھذه لمجتمع متخلف.
تصفح الرقابة عن العلاقات الأسریة المختلة في كل فیلم..عن الاشتھاء الواضح من الأم لابنھا في (الآخر)، وتصفح
عن اشتھاء الأخت (صفیة العمري) لأخیھا في (المھاجر)..حتى زوجة الفیلسوف (ابن رشد) لم یرحمھا .. إننا نرى
في عینیھا اشتھاء كاملاً للفتى الفرنسي الذي جاء یتتلمذ على زوجھا. وتصفح عن مشاھد كاملة في (إسكندریة
نیویورك) لو قدمھا سواه لعلقوه مشنوقاً في میدان (طلعت حرب).. ما معنى ھذا ؟. نظارة ھیبة العبقریة وضعت
على عین الرقیب فلم یعد یرى... لماذا ؟.. لأنھ یتعامل مع الأستاذ..
دعك من المیزانسین المحفوظ المكرر في أفلامھ. فالناس لا یتكلمون بھذه الطریقة، كأن یقف أحدھم وراء جدار
ویطل من نافذة فیھ لیكلم الآخر الواقف في الناحیة الأخرى. بالإضافة لھذا یبرھن یوسف شاھین عن أنھ لا یفھم شیئاً
عن الأسرة المصریة المتوسطة التي یقحمھا في كل أفلامھ. وھو یعتبر ذروة المصریة أن تقول (حنان ترك) لأمھا
وھي ترقص (خطبني تحت المطر) فتقول أمھا دامعة العینین: (مش حاقول رأیي غیر لما اشوفھ)..
أما عن التمثیل فھو لم یكف یوماً عن خنق موھبة ممثلین عظام مثل (محمود حمیدة) وآخرین لیتحركوا في القیود
الضیقة التي صنعھا لھم، كما لم یكف عن اكتشاف وجوه لا علاقة لھا بالتمثیل مثل (ھاني سلامة) و(أحمد محرز)
و..و... لماذا یقحم دالیدا لمجرد أن یثبت أنھ یستطیع ؟.. یقول الناقد (سامي السلاموني): "اختار (شاھین) للفیلم
(سعاد حسني) ثم (محسنة توفیق) ثم (فردوس عبد الحمید) وفي النھایة استقر على (دالیدا).. كیف یصلح لسعاد
حسني ما یصلح لدالیدا ؟.. معنى ھذا أن یوسف شاھین لا یؤمن بقیمة الممثلین، وھو یرصھم كقطع الشطرنج في
أفلامھ لیقولوا أي كلام". لماذا ؟.. لأنھ الأستاذ..
وترى الفیلم أي فیلم فلا ترى معجزة تمثیلیة ما.. إن الممثلین متخشبون مسجونون في قیود فولاذیة فرضتھا شخصیة
شاھین القویة علیھم، ولا أحد منھم یجرؤ على حركة زائدة .. الكلام یخرج على طریقة (عمر الشریف) في (صراع
في الوادي) من شفة علیا مسدلة متصلبة، وكأنھ طلقات الرصاص مع نغمة ناعسة ملول لا داعي لھا، والمقاطع
مدغمة، والتعبیر على الوجھ یأتي بعد إنھاء الكلام لا معھ. وأشك في أن كل من مثل معھ عاش أقسى لحظاتھ وإن
كان لا یعترف بھذا.
ماذا عن الحوار الركیك الذي یصر على كتابتھ على غرار (أمریكا إلي محدش یقدر علیھا) ؟.. وھو ینھي المصیر
بعبارة بالغة العمق (الأفكار لھا أجنحة محدش یقدر یحبسھا).. ماذا عن الإصرار على فرید أستیر الذي لم یكن قد
عرض لھ أي فیلم في مصر عندما انتشرت الكولیرا في (الیوم السادس).. ؟..یقول سامي السلاموني: "كیف عرف
القرداتي كل ھذا عن (فرید أستیر) ما لم یكن قد سافر إلى نیویورك لیحضر عرض فیلمي (في المدینة) و(الغناء
تحت المطر) ؟".
لكننا نعرف السبب .. لقد قدم شاھین ھذا فقط لأنھ یحبھ.. كما یمكن أن یقدم فیلماً كاملاً مثل (إسكندریة كمان وكمان)
لیثبت أنھ راقص بارع و(إسكندراني جدع).. لماذا ؟.. لأنھ الأستاذ..
كما قلت في بدایة المقال، لا اعتراض لي على یوسف شاھین المخرج .. بل إنھ من أعظم مخرجینا وأكثرھم سیطرة
على تكنیك أفلامھ. لكن – كما یقول سامي السلاموني - ماذا یبقى من أفلامھ إذن لو نزعنا التكنیك ؟. وطبعاً لا
اعتراض على التصویر والمونتاج لأنھ یعمل مع الطاقم الأفضل دائماً...





المخرجون من عینة محمد خان وصلاح أبو سیف وخیري بشارة وداود عبد السید قدموا أسالیب فریدة ناضجة لكن
من دون ادعاء، ولم یتھمھم أحد بالعبقریة، كما إنھم – على قدر علمي – لم یتلقوا قدراً زائداً من التدلیل .. ..
بالنسبة لي یوسف شاھین ھو العبقري الذي قدم باب الحدید والأرض ... ھو المخرج فقط لكن لي ألف اعتراض
على المؤلف .. فما رأیك أنت ؟

0 التعليقات:

إرسال تعليق

Twitter Delicious Facebook Digg Stumbleupon Favorites More