Advertisement

عن أدب الرعب في بلد مرعوب.....!





لیرحمھ الله لأنھ قد توفاه قطعًا .. عم (أبو الیزید) البواب النوبي العجوز طیب القلب، وغرفتھ الضیقة العامرة
بالبراغیث تحت سلم حضانة (حمایة الأسرة) بطنطا، وغذاؤه الذي لا یتغیر .. رغیف الخبز الأسمر والباذنجان
الأسود المخلل الذي كنت أشعر دومًا بأنھ جزء من بشرتھ ھو نفسھ .. أذكر بجلاء كیف أنقذ عم (أبو الیزید) حیاتي
وحیاة خمسة من زملاء الحضانة عندما أخفانا في غرفتھ في ذلك الیوم من صیف 1967 عندما جن جنون (عبد
الناصر) فأرسل رجالھ یسحبون الدم من بطون الأطفال. یومھا جرنا عم (أبو الیزید) إلى غرفتھ ونظر حولھ بحذر
ثم قال لنا ھامسًا بلھجتھ النوبیة الساحرة وبیاض عینیھ الأصفر یلتمع:
"إنتي تقعدي ساكتة لاھسن عبد الناصر یاخد دم من بطنك"
وھكذا جلسنا صامتین في غرفتھ ونحن نتخیل ما یحدث للتعساء الذین یصرخون في الخارج، بینما رجال عبد
الناصر یقیدونھم ویدسون الخراطیم ماصة الدماء في أحشائھم.. وأكلنا الكثیر من الباذنجان الأسود على سبیل تزجیة
الوقت، وبعد ساعة رأیت أمي تركض إلى الحضانة .. لم أرھا قط بھذا المنظر المبعثر المذعور المنھك .. نقدت
الرجل الطیب بعض المال ثم أخذتني وراحت تجتاز الشوارع الخلفیة حتى لا تقابل مصاصي الدماء الحكومیین.
وفي الطریق إلى الدار رأیت النسوة یركضن في كل صوب صارخات وعلى وجوھھن ذات التعبیر الذي رأیتھ على
وجھ أمي.. شرحت لي أمي كیف أن ھناك أزمة في الدماء بعد ھزیمة جیشنا في سیناء، وكیف أن عبد الناصر
أصدر أوامره لرجالھ أن یمروا على المدارس لیسحبوا الدماء من بطون الأطفال..
فیما بعد عرفت أننا كنا في ذروة انعدام الوزن بعد ما فقدنا ثقتنا في النسر الأسطوري الجمیل الذي جاء من أعماق
التاریخ لیھزم الاستعمار ویوحد العرب ... وكنا على استعداد لتصدیق أي شيء مھما كان سخیفًا .. إن ھذه الإشاعة
لا تصمد لأي تحلیل متأن .. فلیس الأطفال بالمصدر الأفضل للدماء، ولو كان ھذا صحیحًا فالدماء لا تؤخذ من
البطون .. لكنھا إشاعة صممت ببراعة لتجمع بین البشاعة (دم یؤخذ من البطن) وإلھاب المشاعر (لا أحد یطیق
إیذاء الأطفال)... إشاعة صممت كي تحدث ھیاجًا شعبیًا تصعب السیطرة علیھ..
كان ھذا أول عھدي بالإشاعات .. وفیما بعد قرأت كتاب صلاح نصر عن الحرب النفسیة وسیكولوجیة الإشاعة،
فوجدت أن ھذه الإشاعة من أبرع ما تم تصمیمھ لبلد یھوى تصدیق كل شيء ..
كتاب صلاح نصر ذاتھ كان مصدر رعب لا یوصف لنا لأن السلطة غضبت على الرجل، وصار من یقتني كتابھ
عمیلاً أو – على أقل تقدیر – وغدًا .. أبي لم یرد التخلص من ھذا الكتاب الثمین لھذا أخفاه تحت الفراش .. وعشنا
أعوامًا نتوقع أن یقتحم رجال المباحث البیت لیخرجوا الكتاب من مكانھ، ثم یوقفونا صفًا إلى الحائط ویفرغوا فینا
الرصاص ..
أعتقد أنك قد فھمت الآن موضوع المقال باختصار شدید .. طالما سألوني عن مستقبل أدب الرعب في مصر، فكنت
أقول بثقة: لا مستقبل لھ .. لیس الآن .. نحتاج إلى مائة عام على الأقل ودرجة معینة من الترف الفكري والاجتماعي
والحضاري حتى نقرر أن نرعب أنفسنا بأنفسنا .. لیس ھذا كلامي بل كلام عمید كتاب الرعب في القرن العشرین
ھ .ب. لافكرافت .. یقول الرجل في مقال شھیر جدًا كتبھ عام 1926 ویحمل اسم (الرعب الخوارقي في الأدب):
"یحتاج تذوق أدب الرعب إلى قدرة تخیلیة عالیة عند القارئ .. بالإضافة إلى قدرتھ على التجرد مما یحیط بھ من
مؤثرات". كانت أمریكا مشغولة ببناء نفسھا عندما كتب لافكرافت، لھذا عاش الرجل حیاة ضنكًا ومات فقیرًا. نفس
الشيء ینطبق على إدجار آلان بو مواطنھ الذي كان یغري القط بالنوم على قدمي زوجتھ المریضة لتدفئتھا.. إن محاولة قراءة لافكرافت وقت الظھیرة وسط زحام المواصلات تجعلك تعتقد أن ھذا الرجل مخبول أو (رایق) لدرجة
تثیر الغیظ ..
أذكر أن فیلم (حرب الكواكب) – حروب النجم إذا شئت الدقة - لم ینجح في مصر .. وقتھا كتب الناقد الراحل
الرائع سامي السلاموني: الفیلم یدأ بعبارة تقول (حدث ذات مرة في زمن بعید في مجرة بعیدة .. بعیدة).. ھكذا فقد
الفیلم أیة أرضیة لھ لدى المشاھد المصري الذي لا یستطیع السیر في شارع سلیمان دون ان ینكسر عنقھ .. فكیف
یبالي بما یحدث في مجرة بعیدة في زمن بعید ؟!!
الناس تعشق أدب الرعب لتتطھر من مخاوفھا الخاصة .. أن تعیش أفظع التجارب بشكل مقنن لتزداد ثقة في قدرتھا
على البقاء .. باختصار أدب الرعب ھو بروفة موت دائمة...
لماذا یبحث المرء عن بروفة موت وھمیة إذا كان فعلاً في بروفة موت واقعیة دائمة ؟.. ماذا عن محاولة عبور
الشارع وسط المیكروباصات المجنونة بسائقیھا (المسجلین خطر) التي تحاول أن تدھم أكبر عدد من المارة ؟.. ماذا
عن الوثب من الأتوبیس ؟.. ولو كنت تملك سیارة فماذا عن لجنة المرور ومحاولتك ألا تنظر أكثر من اللازم إلى
الباشا كي لا یأمرك: إركن .. ماذا عن شھادة المخالفات لو وجدت أن علیك ثلاثة آلاف جنیھات بسبب استعمال آلة
التنبیھ ؟.. ھل یمكن القیادة في مصر من دون آلة تنبیھ ؟.. كیف سمعوا آلة تنبھك أنت بالذات وسط ھذه الضوضاء ؟
ماذا عن فاتورة الكھرباء القادمة؟.. وماذا عن فاتورة الھاتف القادمة ؟.. ماذا تفعلھ لو وجدت أنھم یطالبونك بخمسین
ألفًا من الجنیھات لاستخدامك خدمة زیرو تسعمائة أو مكالمات موبایل لم تجرھا ؟.. ھل تتركھم (یشیلوا العدة ) ؟..
وماذا عن إخطار جلسة المحكمة الذي لم تتسلمھ وقد یؤدي بك لدخول السجن دون أن تعرف السبب ؟
ثم ماذا عن أساسات العمارة التي دفعت دم قلبك للحصول على شقة فیھا ؟.. ھل كان المقاول نصابًا ؟... ھل تتحمل
الزلزال القادم ؟.. ھل تسقط فجأة من دون زلزال لتجد نفسك في الشارع تتسول أو تجد نفسك تحت الأنقاض وتطلع
في نشرة التاسعة ؟
وماذا عن مدخراتك لو كنت تملك شیئًا ؟... ما ھو القرار الجدید لمجموعة الاقتصادیین الھواة الذین یجتمعون كل
صباح باحثین عن وسیلة جدیدة لخراب بیتك ؟... لقد صار كل جنیھ في جیبك أربعین قرشًا خلال عامین فھل
تتحول الأربعون قرشًا إلى نكلة ؟ ... ماذا عن راتبك ؟.. ھل ستظل تتقاضاه أم یقول لك عم جابر الصراف: (اتكل
على الله) یومًا ما ...؟.. واللحم ؟... كیف یمكن أن تشتري اللحم یوم یصیر ثمنھ ستین جنیھًا ؟ وھذا سیحدث بإذن
واحد أحد لأنھ ما من أحد یبالي بمصائبك سواك ...
ماذا عن كوب الماء الذي تشربھ والھواء الملوث الذي تتنفسھ ؟.. ماذا عن الفراخ المحشوة بالھرمونات ؟.. ھل لعبة
الجینات تدور الآن في كبدك لتتكون تلك الخلیة المحندقة الشقیة التي تصر على ألا تموت ؟... ھكذا یولد السرطان
ببطء لكن بثقة ... كل معارفك وجدوا ذلك الورم في اكبادھم ویبدو أن من لا یجد سرطانًا في كبده الیوم إنسان
محظوظ فعلاً..
وماذا عن الكتابة مع المشاغب إبراھیم عیسى في مكان واحد ؟.. كنت دائمًا أنبھر بشجاعة ھذا الرجل لكني أجد فیھ
كذلك تضخمًا لغریزة الفناء الفرویدیة... تشعر طول الوقت بأنھ یتوق إلى أن یتم تدمیره وأن یعود لحالة ذرة الكربون
المسالمة .. في كتاب (عمائم وخناجر) وصل الأمر إلى أنھ وصف مكانھ بدقة في بنایة روز الیوسف كي یسھل
الأمر على من یرید ذبحھ.. طیب ھو دماغھ كده .. لكن ما ذنبك أنت ؟
ماذا عن زوار الفجر ؟.. وماذا عن صوت البوكس لو وقف تحت شرفتك في الرابعة صباحًا وجاء (عادل بیھ) یقول
لزوجتك إنھم یریدونك لمدة نصف ساعة لا أكثر .. "مجرد إجراءات روتینیة".. ثم تذھب فلا یعرف لك الذباب الأزرق طریقًا ؟.. ترى ھل تتحمل التعلیق على عروسة والنفخ ؟... یمكنك أن ترحم نفسك وتعترف ولكن بأي
شيء بالضبط ؟
ماذا عن ابنتك العائدة من الكلیة وقد بدأ الظلام یحل ؟.. ماذا عن ابنك وتلك الشلة المریبة تحیط بھ ؟.. كم من الوقت
یلزم قبل أن یقدم لھ أحدھم أول جرعة من البرشام ؟... وامتحان الثانویة العامة .. ھل ھو من المنھج أم خارجھ ؟..
الامتحان من المنھج یبشر بتحویلھ إلى حمار، والامتحان خارج المنھج یھدد بألا یجد كلیة تقبلھ إلا (معھد الدراسات
المحلیة التناظریة التعاونیة) . وماذا عن جلوسھ في البیت بلا عمل بعد التخرج ؟... ینظر لك بعینین متھمتین یطالبك
بعمل شيء ... مش خلفتونا ؟... یبقى تتصرفوا ...
ماذا عن أزمة المیاه واتفاقیات حوض النیل ؟.. ماذا عن قناة سویس إسرائیل البدیلة ؟.. ماذا عن ثقب الأوزون
والتسخین الحراري ؟...
الحقیقة أن الناس في مصر محظوظون .. فھم لیسوا بحاجة إلى قراءة أدب الرعب لممارسة بروفة الموت .. إن
الرعب ضیف دائم معھم خاصة أسوأ أنواعھ: الخوف من الغد .. وكلما أمعنت النظر في المسألة ازداد اقتناعي بأن
ستیفن كنج واحد فاضي .. وأن لافكرافت راجل (موش تمام). لیرحم الله الجمیع.

0 التعليقات:

إرسال تعليق

Twitter Delicious Facebook Digg Stumbleupon Favorites More