Advertisement

حسد





الیوم أعترف بالحقیقة التي أخفیتھا عن الناس منذ الطفولة..
أنا أحسد بقوة..
أحسد طفلاً سوف یحقق كل الأشیاء التي فشلت أنا في تحقیقھا
(الشاعر الروسي إیفتوشنكو)
??????
یجب أن أعترف بھذه الحقیقة .. لقد نجح ھؤلاء القوم في تحقیق ما عجزت عنھ أنا .. ربما أداري الحقیقة بالكثیر من
التعالي .. التحذلق .. ترفع الطبقة الوسطى، لكني أدرك یقینًا أنني فشلت في فھم قواعد اللعبة منذ البدایة وھي ذي
النتیجة واضحة جلیة، وھي أن الزمن لیس زمني ولا البلد بلدي .
لقد رأیتھم قادمین .. كنت في المدرسة الثانویة بینما السادات یضع المتفجرات تحت الصرح الذي شیده عبد الناصر
طیلة عقدین من الزمن، ولم أعلق أھمیة كبرى على ھذا .. عرفتھم بوجوھھم السوقیة الشھوانیة .. عرفتھم بأصواتھم
الجھیرة .. وكما قال الناقد السینمائي الراحل سامي السلاموني: "تعرفھم من كروشھم وفتحة صدر الطرزانات
وصفاقة من شبع بعد جوع .. منھم الطبیب والمحامي والمھندس والعامل، لكنھم صاروا طبقة واحدة لھا شكل واحد
وطموحات واحدة، وربما تستمع لنفس المطرب..".. كتب ھذه الكلمات یوم قام احدھم بنشاط محبب لھم ألا وھو
غرس سكین الفاكھة – حتى المقبض - في بطن ابن شقیقة عبد الناصر .. فقط عین السلاموني الحساسة استطاعت
التقاط الرمز وراء ھذا المشھد..
كنت أجلس في غرفتي أطالع الطیب صالح وكافكا وطھ حسین، وأعلق رسوم محمود سعید ورینوار، بینما كان
ھؤلاء یزحفون كالقمل في كل مكان .. ثمة نشاط بشري غریب ھو أن تذھب لبور سعید وتلف القماش على خصرك
وتضع عشرین ساعة حول ساعدیك كي تتجنب الجمرك.. نشاط آخر غریب اسمھ المتاجرة بالدولار في السوق
السوداء .. ھذا النشاط یقومون بھ جمیعًا لكني - وكل أمثالي – عاجزون عنھ .. ربما لأنني أترفع عنھ .. ربما لأنني
أخشاه .. ربما لأنني لم أفھم قواعد اللعبة بعد .. ربما لأنني (مش وش بھدلة) وبلغة أدق: كان لدي ما أخسره .. ھم لم
یكن لدیھم ما یخسرون .. ھذه ھي عقد الطبقة الوسطى التي تكبلك إلى الأرض ..
إنھم یمارسون الاختلاس والرشوة والمحسوبیة على نطاق واسع .. ثم أنھم لا یخجلون .. ینشئ السادات حزب مصر
فینضمون جمیعًا لھ ویكتب احدھم على طریقة فكتور ھوجو: لو كان أعضاء حزب مصر خمسة فأنا منھم .. ولو
كانوا واحدًا فأنا ذلك الواحد..
ثم یترك السادات حزب مصر لینشئ الحزب الوطني الدیمقراطي عندھا – في الیوم ذاتھ - لا یبقى بین جدران حزب
مصر واحد من ھؤلاء .. مشكلتي أنني بطيء التفكیر أكثر من اللازم .. أرى ھذا الموقف فأقضي عشر سنوات
أحاول استیعابھ .. بینما ھم جمیعًا فھموھا (وھي طایرة).. لقد انتھوا من استخراج الدھن من الزلط ودھن الھواء
بالدوكو ، بینما أنا ابن الطبقة الوسطى ما زلت أعتقد أن المستقبل لي أنا .. رأسي مقبرة أثریة تضم رفات ناصر
وجیفارا ولومومبا حیث أحرق البخور وأتكلم عن بطولة سنموت حنا مع النحاس، وأحفظ كل حرف قالھ كاسترو
لناصر عندما التقیا في القاھرة ..
إنھم یتاجرون في الأراضي .. إنھم یحصلون على تصاریح البناء غیر القانونیة . إنھم یقوون علاقاتھم بكبار رجال
الشرطة .. بینما یستطیع أصغر شرطي مرور أن یجعل الدم یتجمد في عروقي .. ثم یقررون أن یتدینوا فجأة،
وتظھر زبیبة صلاة عملاقة لكل منھم، ویلبسون الجلابیب البیض، ویسافرون للعمرة عدة مرات في كل عام
وینشئون الشركات التي تبیع حبة البركة والعسل الأبیض، ویدیرون المدارس التي تحمل في نھایة اسمھا لفظة
(الإسلامیة).. ویعودون لیتھموا بطیئي الفكر بالتسیب الدیني، ولا بأس من غرس سكین في عنق نجیب محفوظ فھذه
كما قلت من ھوایاتھم المحببة، والرجل ھو الآخر لم یفھم قواعد اللعبة برغم ذكائھ الشدید..

وتتأمل سلوكھم فتجد أنھم یمارسون ثلاثیة المنافق حرفیًا: یحدثون فیكذبون .. ویعدون فیخلفون .. ویؤتمنون
فیخونون.. لكنھم جھیرو الصوت قادرون على الصراخ في أي وقت لیخرسوك ..
ثم یكتشفون فجأة أن مصر تضم مسلمین ومسیحیین ویقررون أن ھذا خطأ وأن ھذا سبب مشاكلنا الاقتصادیة التي
یعاقبنا بھا الله.. دعك من أنھم اكتشفوا فجأة أن ھناك صعایدة في الجنوب وأن ھذا شيء ظریف جدًا.. وتبدأ نكات
الصعایدة التي یطلقھا الحشاشون في ملاھي شارع الھرم لتشق مصر إلى نصفین ..
إنھم یسودون المقالات في الصحف تبرر كل ما تفعلھ الحكومة مھما كان خطأ أو جائرًا .. إنھم یھتفون : بالروح
بالدم نفدیك یا سادات.. ویوم اغتیل السادات لم یكن أحدھم مستعدًا لتبدیل جلستھ المریحة لینقذه .. وعند المساء كانوا
قد نسوا كل شيء عن السادات وراحوا یرتبون أوراقھم للعھد الجدید .. فإذا جرؤت على انتقادھم صرخوا بأعلى
صوتھم أنك من (حزب أعداء النجاح)..
إنھم لا یملكون ذرة ثقافة لكنھم یعتنقون شعار روكفلر: حسابي في المصرف دلیل على أن الله راض عما أفعلھ ..
وھم یؤمنون – كخلاصة الفلسفة البراجماتیة الأمریكیة - بأن الفقیر مسئول عن فقره بشكل ما .. ربما لأنھ أغبى من
اللازم .. أبطأ من اللازم .. أجبن من اللازم .. والمشكلة أنني بدأت أعتقد ھذا..
تاجروا في الحشیش والبرشام والبودرة والیوم یزرعون البانجو ویدخنونھ لأنھم أدرى الناس بأن (دماغھم متكلفة)
وھم حریصون على حفظ التوازن الكیمیائي لآلة صنع المال ھذه .. إنھم یأخذون القروض ویفرون لكن – وھذا لغز
–تظل البلد بلدھم، بینما أنت الباقي فیھا والذي سیدفن – مفروسًا - في ترابھا تشعر بشكل ما أنك مجرد ضیف عابر
..
??????
نعم .. في لحظات كفاحي المرھقة كي لا أنزلق إلى طبقة أقل أقول لنفسي إنني فشلت .. كان الزمن یتغیر وفشلت أنا
في فھم ذلك، بینما ھم فھموا منذ البدایة .. لقد امتلكت بعض الثقافة السطحیة لكني افتقرت تمامًا لذلك النوع الخاص
من الذكاء الذي یطلقون علیھ (نصاحة) .. ربما لو لم یكن لدي ما أخسره .. ربما لو فھمت أسرع من ھذا ..
لكني لن ألقى باللوم على أحد سواي .. لا توجد بدایات متأخرة للعبة ولیس بوسعك أن تتعلمھا في سن الأربعین كما
أنھا لا تُدرس في المدارس .. ولھذا فشلت كل محاولة لي في دھن الھواء بالدوكو أو خرم التعریفة أو اعتصار الدھن
من الزلط ... ولھذا أقولھا بكل صدق: أنا أحسد ھؤلاء القوم .. فقد امتلكوا الأرض وما علیھا .... وربما یمتلكون
المستقبل كذلك وإن كنت أدعو الله أن یتعلم ابني فن دھان الھواء قبل أن یحدث ھذا.

0 التعليقات:

إرسال تعليق

Twitter Delicious Facebook Digg Stumbleupon Favorites More